يعيش المغرب في الأسابيع الأخيرة لحظة دقيقة تتقاطع فيها المطالب الاجتماعية مع انتظارات سياسية متزايدة. فقد شهدت مدن عدة موجة من الاحتجاجات السلمية قادها شبابٌ من جيل جديد، عبّر من خلالها عن قلق مشروع تجاه الأوضاع المعيشية وتراجع جودة الخدمات العمومية، خصوصاً في قطاعي الصحة والتعليم.
ورغم الطابع السلمي الغالب على هذه التحركات، تسللت إليها في بعض الحالات سلوكيات منحرفة اتسمت بالتخريب والعنف، ما استدعى تدخل السلطات الأمنية في إطار القانون لضمان النظام العام وحماية الممتلكات. وهنا تتأكد قاعدة أساسية في التجربة المغربية: الاحتجاج حق دستوري مشروع، لكنه يفقد مشروعيته حين يمسّ السلم العام أو يقوّض هيبة الدولة.
غير أن الملاحظ في هذه الأحداث، أن الشعب المغربي عبّر عن وعيٍ حضاري عميق وحبٍّ صادق للملك، وهو ما تجلى في الشعارات التي رفعت في مختلف المدن، حيث ردد المحتجون عبارة “عاش الملك” في أكثر من مناسبة، في مقابل دعواتٍ واضحة لمحاسبة الحكومة ومطالبتها بالاستقالة.
هذا التمييز الشعبي بين المؤسسة الملكية كرمز للوحدة والاستقرار، وبين الأداء الحكومي كفاعل قابل للتقييم والمساءلة، يعكس وعياً سياسياً ناضجاً ويؤكد أن المغاربة يميزون بدقة بين الدولة العميقة والدولة القائمة على المسؤولية التنفيذية.
جيل جديد.. من الشارع إلى الفضاء الرقمي
تُظهر هذه التعبيرات الاجتماعية حضور “جيل Z” المغربي كفاعل رئيسي في المشهد العام، جيل نشأ في زمن التحول الرقمي والاتصال الفوري، لا يؤمن كثيراً بالوساطة التقليدية ولا بالخطابات الحزبية المألوفة. هذا الجيل يُعبّر عن مطالبه بلغة مباشرة وعبر أدوات غير مؤسساتية، جعلت من المنصات الرقمية فضاءً موازياً للنقاش العمومي وصناعة الرأي، بل ومصدراً لتشكيل ضغط اجتماعي متنامٍ يفرض على الفاعلين السياسيين إعادة التفكير في آليات التواصل والحكامة.
الحكومة بين أزمة التواصل ومتطلبات الفعل
تعددت تدخلات الحكومة خلال الأسابيع الأخيرة، سواء من خلال البلاغات الوزارية أو الاجتماعات المتتالية لرئيس الحكومة، غير أن التفاعل مع الشارع ظلّ محدود الأثر. فقد زادت بعض التصريحات الرسمية من حدّة الاحتقان بدل تهدئته، مما كشف عن أزمة تواصل مؤسساتية تحتاج إلى معالجة عميقة.
وفي المقابل، برزت أصواتٌ تطالب بتقييم موضوعي لأداء الوزراء، حيث أثبتت بعض القطاعات الحكومية اجتهاداً واضحاً ومردودية محترمة، تستحق التنويه والتشجيع، فيما أبانت قطاعات أخرى عن عجزٍ واضحٍ يستوجب تجديد المسؤوليات وضخّ دماء جديدة.
ومن هنا، فإننا أمام معادلة دقيقة: الإصلاح لا يتحقق بتغيير الأشخاص فقط، بل بتغيير الرؤية ومنهجية التدبير.
كما أصبح من الضروري التفكير في إدارة رقابية قوية للمجالس الترابية، نظراً لما تعرفه بعض الجهات من سوء تدبير للموارد المالية والبشرية. فالكثير من الإمكانيات تُصرف في غير موضعها، ولو استُثمرت وفق الحكامة الرشيدة لكان المغرب اليوم في طليعة الدول الصاعدة. إن إصلاح الإدارة الترابية وتفعيل الرقابة الجادة يشكلان مدخلاً أساسياً لتحقيق العدالة المجالية وتكريس الثقة في المؤسسات.
وفي السياق نفسه، تبرز الحاجة الملحّة إلى وضع استراتيجية سياسية وطنية منسجمة مع الظرفية الحالية، تراعي التحولات الاجتماعية والاقتصادية، وتضمن توازناً بين مطالب المواطنين ومتطلبات الدولة في الاستقرار والنمو.
الخطاب الملكي.. محطة توجيه وإعادة التوازن
في هذا السياق الاجتماعي والسياسي المتشابك، تتجه الأنظار إلى الخطاب الملكي المرتقب بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة ضمن الولاية التشريعية الحادية عشرة.
فالخطاب الملكي في النظام الدستوري المغربي ليس مجرد لحظة بروتوكولية، بل يمثل محطة توجيهية عليا تُعيد ضبط أولويات الفعل الحكومي والبرلماني، وتؤسس لمرحلة جديدة في تفعيل النموذج التنموي.
كما أن الظرفية الراهنة تمنحه بعداً خاصاً، إذ ينتظر الرأي العام أن يكون خطاباً لتجديد الثقة وإعادة بناء الجسور بين الدولة والمجتمع، عبر رسائل واضحة في اتجاه الإنصات، والمحاسبة، والعدالة الاجتماعية.
قراءات ممكنة في الخطاب المنتظر
1. سياسياً: من المتوقع أن يحمل الخطاب تقييماً دقيقاً لأداء الحكومة في منتصف ولايتها، مع دعوة صريحة لتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية، وترسيخ مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتجديد المسؤوليات حيثما دعت الحاجة.
2. اجتماعياً:
ينتظر أن يركز الخطاب على تعزيز العدالة الاجتماعية وتقليص الفوارق وتحسين جودة الخدمات الأساسية، تجاوباً مع نبض الشارع ومطالبه المشروعة.
3. اقتصادياً: من المرجح أن يُعلن عن إجراءات لتسريع وتيرة الاستثمار الوطني والأجنبي وتفعيل الجهوية المتقدمة كرافعة للعدالة المجالية.
4. مؤسساتياً: سيُعاد التأكيد على مكانة المؤسسات المنتخبة ودورها في الوساطة الديمقراطية، مع تعزيز الرقابة والمساءلة.
5. رمزياً: الخطاب سيكون فرصة لتجديد الثقة بين الدولة والمجتمع، وإبراز التلاحم القائم بين الملك والشعب كضمانة للاستقرار والإصلاح.
القيمة الحقيقية لأي خطاب سياسي لا تُقاس ببلاغته، بل بمدى ترجمته إلى قرارات وسياسات عملية قابلة للتنفيذ والتقييم. لذلك ينتظر المواطن المغربي أن تكون الرسائل الملكية خارطة طريق لإجراءات ملموسة تشمل فتح التحقيقات، ومتابعة الإصلاحات القطاعية، وتوسيع الحوار مع فئات الشباب، وتسريع وتيرة المشاريع ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي.
إن المغرب يقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة من التحديث السياسي والاجتماعي. فالغضب الذي عبّر عنه الشارع لا ينبغي أن يُفهم كرفض، بل كمؤشر حيوي على وعيٍ جمعيٍّ متنامٍ يطالب بالنجاعة والمساءلة.
ويظل حب الشعب لملكه وتشبثه بمؤسسته الملكية عنواناً بارزاً في كل المحطات، ودليلاً على عمق العلاقة التي تجمع العرش بالشعب، والتي تشكل أساس استمرارية الدولة واستقرارها.
ومن هذا المنطلق، يُنتظر أن يشكل الخطاب الملكي القادم منعطفاً حاسماً نحو تجديد الثقة وضخّ نفسٍ إصلاحي جديد، يُعيد ترتيب الأولويات ويؤسس لمرحلة من الإصلاح العميق والواقعي، في إطار التلاحم بين القيادة والشعب.