
يشهد المغرب هذه الأيام دينامية تشريعية لافتة تعكس إرادة مؤسساتية واضحة في تحديث الإطار القانوني الذي ينظم المعاملات التجارية، وفي مقدمتها منظومة الشيكات. ويأتي مشروع تعديل مدونة التجارة، الذي صادقت عليه الحكومة المغربية يوم 9 أكتوبر 2025 وأُحيل على مجلس النواب يوم 2 دجنبر 2025 حيث تمت المصادقة عليه، ليعيد فتح نقاش مسؤول حول موقع الشيك داخل البنية الاقتصادية الوطنية، ويطرح سؤالاً مركزياً: كيف يمكن إعادة الاعتبار لوسيلة أداء فقدت جزءاً من مصداقيتها بفعل تراكم العوارض والمتابعات القضائية؟
الإصلاح المقترح لا يقتصر على تعديل تقني في النصوص القانونية، بل يمثل تحولاً فلسفياً في نظرة الدولة للشيك؛ من كونه أداة عقابية تنتهي غالباً بالسجن، إلى اعتباره آلية اقتصادية تُعنى بالحلول التصالحية والتسوية قبل اللجوء إلى المتابعة القضائية.
روح الإصلاح تقوم على مبدأين أساسيين:
أولاً، حماية الثقة داخل الدورة التجارية عبر تشجيع الأداء، وتمكين الأفراد والمقاولات من فرصة تسوية أوضاعهم دون تهديد مباشر بالاعتقال.
ثانياً، تخفيف الضغط على المحاكم ومراكز الاحتجاز من خلال توسيع بدائل الدعوى العمومية واعتماد مقاربة أكثر مرونة وواقعية.
ويمثل تخفيض الغرامات الإبرائية، وإتاحة مهلة زمنية للإشعار قبل تحريك الدعوى، وفتح باب الصلح في جميع مراحل التقاضي – حتى بعد صدور الحكم – تحولاً جوهرياً في المقاربة القانونية. كما أن استثناء الشيكات المتبادلة بين الأزواج والأصول والفروع من التجريم يحمل حسّاً اجتماعياً يعكس وعياً بطبيعة العلاقات الأسرية وتشابكها المالي.
وفي هذا الإطار، يكون من الإنصاف التنويه بجرأة المشرع وبحكمة وزير العدل عبد اللطيف وهبي التي أطلق هذا الورش الإصلاحي بروح مسؤولة تستحضر مصلحة المجتمع وتحمي في الوقت ذاته الفئات الأكثر هشاشة من التجار والمقاولين الصغار. الواقع يوضح أن عدداً من هؤلاء يجدون أنفسهم، لأسباب اقتصادية قاهرة أو تعثرات ظرفية، عاجزين مؤقتاً عن الوفاء، دون أن يكون لديهم أي أصل مالي أو عقاري يمكنهم من أداء ما في ذمتهم. فكيف يمكن تفسير الزج بهؤلاء في السجن لمجرد عجز ظرفي، بينما هم في الحقيقة ضحايا تقلبات السوق أكثر مما هم مخالِفون بإرادة؟
وتتجلى الإشكالية بوضوح أكبر في الحالات التي يُسلم فيها الشيك باسم المستفيد الأصلي، ويتم أداء قيمته بحسن نية، لكن يعجز صاحب الشيك عن استرجاعه لظروف خارجة عن إرادته – قد تكون سفرًا، أو ضيق وقت، أو اعتمادًا على الثقة المتبادلة – قبل أن يتوفى المستفيد. ليجد الموقّع على الشيك نفسه بعد سنوات أمام ورثة يقدمون الشيك للمحكمة باعتباره دَيناً قائماً، بينما الحقيقة الفعلية تمثل أن المعاملة قد تمت وانتهت في حياة الهالك. هنا يصبح الشخص الوحيد الباقي على قيد الحياة أمام شيك فقد مضمونه المادي لكنه ظل قائماً شكلياً، وهو وضع قانوني يحتاج معالجة دقيقة تتوافق مع مبادئ العدالة والإنصاف، وتراعي طبيعة المعاملات التجارية المبنية على الثقة والمرونة.
إن المشرّع، من خلال هذا الإصلاح، لا يسعى فقط لمعالجة اختلالات آنية، بل لتأسيس ثقافة قانونية جديدة توازن بين حماية الحقوق وضمان الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. وما هو مطلوب اليوم هو تسريع النقاش البرلماني ضمن حوار وطني هادئ ومسؤول، يسمح بإخراج نص متوازن وفعّال وقابل للتطبيق بمرونة وحكمة.
فإصلاح الشيك ليس مجرد تعديل قانوني، بل هو حجر زاوية في بناء منظومة مالية أكثر عدالة وثقة وملاءمة لمغرب اليوم والغد.
