في خطاب سامٍ بمناسبة الذكرى 26 لتربع جلالة الملك محمد السادس على عرش أسلافه المنعمين، ألقى الملك خطابًا سياسيًا مؤسسًا، حمل في طياته أبعادًا استراتيجية متعددة، وكرس روح التعاقد الجديد بين الدولة والمواطن، مُعيدًا التأكيد على جوهر الوظيفة الاجتماعية للدولة، ومستحضرًا العمق الدستوري للنموذج التنموي الجديد.
الخطاب، الذي جاء بعد ربع قرن من الأوراش الكبرى، تميز بنَفَس استشرافي يعيد توجيه البوصلة نحو جوهر العدالة المجالية، حيث لا يُكتفى بتنزيل مشاريع التنمية، بل يُشترط أن تنعكس فعلًا على الحياة اليومية للمواطن في كافة جهات المملكة، بخصوصياتها الترابية والاجتماعية.
لقد أكد الملك، بلغة مباشرة وعميقة، أن الوقت قد حان لتجسيد الدولة الاجتماعية على أرض الواقع، معتبرًا أن العدالة المجالية ليست شعارًا دستوريًا فحسب، بل مبدأً عمليًا، يوجب من الإدارات والمؤسسات الوسيطة أداء دورها كاملاً في التفعيل العادل للبرامج العمومية، بعيدًا عن العرقلة والتقاعس والبيروقراطية العقيمة.
وهنا يتقاطع الخطاب مع روح دستور 2011، الذي نص في فصله الأول على ربط المسؤولية بالمحاسبة، وفي فصله 136 على اعتماد الجهوية كأساس للتدبير الترابي، وكذا في الفصول 31 و34 و154، التي تكرّس الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين في التعليم، والصحة، والسكن، والشغل، والحماية من الهشاشة.
كما يُسجل المراقبون أن الخطاب لم يكن تقليديًا في مضمونه، بل حمل إشارات ذكية إلى ما بعد “الجهوية المتقدمة”، نحو جهوية تُنتج الثروة وتوزعها بعدالة، بتدبير فعال ومقاربة قائمة على الإنصاف والتمييز الإيجابي لفائدة المناطق التي ما تزال تعاني من الفوارق الاجتماعية والاقتصادية.
ولم يفت الخطاب أن يذكّر بمكانة المواطن في صلب المشروع التنموي، حيث شدد الملك على أن الغاية من كل السياسات العمومية يجب أن تكون خدمة المواطن، وهو ما ينسجم مع الفصل 154 من الدستور الذي ينص على أن المرافق العمومية تُخضع في تنظيمها وسيرها ومراقبتها لمبادئ الشفافية والنجاعة والجودة وربط المسؤولية بالمحاسبة.
وإذ يُسلّط الخطاب الضوء على التحولات الدولية والإقليمية، فإنه يعيد التأكيد على مركزية الدولة الراعية والضامنة للتوازنات المجالية، خاصة في ظل التحديات التي تفرضها التحولات المناخية، وتقلبات الأسواق، والتحولات الجيوسياسية، وهو ما يتطلب تجديدًا في أدوات التدبير ومقاربات الحكامة.
في ضوء كل هذا، يبدو أن خطاب العرش لهذه السنة يُشكّل لحظة دستورية بامتياز، تستدعي من مختلف الفاعلين – حكوميين، ترابيين، حزبيين، ومجتمعيين – إعادة ترتيب الأولويات، والانخراط الصادق في تنزيل فعلي لنموذج تنموي جديد قائم على ربط الثروة بالعدالة، وتكافؤ الفرص، ومردودية السياسات.
إنه خطاب تأسيسي لمرحلة جديدة من الفعل العمومي، حيث تصبح الدولة القوية والعادلة، كما عبّر عنها جلالة الملك، ليست فقط مطلبًا شعبيًا، بل خيارًا استراتيجيًا لضمان استقرار المغرب وتقدمه في عالم متقلب لا يرحم من يتردد.