السبت 15 نوفمبر 2025 19:31

بين النخيل والماء…سكّورة تروي قصة الإنسان و الطبيعة

✍️فاطمة الزهراء احموش

في الجنوب الشرقي للمغرب، وعلى مشارف مدينة ورزازات، تمتد واحة سكّورة كسرّ دفين خبأه الزمن بين الرمال والجبال. بحر أخضر يتلألأ وسط الصحراء القاسية، تتشابك فيه آلاف النخيل مع ضوء الشمس، فيما تفوح رائحة الأرض بعد المطر، رائحة تحكي تاريخ الأرض وحياة الإنسان معًا. سكّورة ليست مجرد واحة، بل تجربة حية للصمود والجمال والإبداع البشري، مكان يحكي قصة الجنوب الشرقي منذ قرون، ويكشف للزائر كيف يمكن للحياة أن تزدهر في أصعب الأماكن، وكيف يمكن للإنسان أن يصنع من الصحراء جنة صغيرة ينبض قلبها بالحياة والأمل.

 

عند دخولك سكّورة، يأسرك أول ما يلمح إليه الناظر: غابة النخيل الشاهقة التي تمتد كجيش صامت يحرس الأرض منذ آلاف السنين. كل نخلة تحمل في جذورها حكمة الأجيال، وفي سعفها رسائل من الماضي، وفي تمرها غذاء للجسد والروح. بين هذه المساحات الخضراء تتخللها بساتين الرمان والزيتون والورد، فتبدو الواحة وكأنها جنة صغيرة وسط الصحراء القاسية. مياه السواقي تتلوّى بين الحقول بهدوء، كخيوط فضة، تصنع موسيقى صامتة يرافقها خرير الماء وضحكات الأطفال، لتذكر الزائر أن كل قطرة ماء هنا قيمة لا تُقدر بثمن، وأن الإنسان تعلم درسًا ثمينًا عن احترام الطبيعة، والصبر، والتخطيط الدقيق، وإدارة الموارد.

الواحة ليست مجرد أرض خصبة، بل مسرح للحياة اليومية، حيث ينسجم كل عنصر مع الآخر. مع أول خيوط الفجر، تبدأ أصوات الطيور الصغيرة في الغناء، وتبدأ أشعة الشمس بالانسلال بين السعف، فتتحول الظلال إلى نغمات ذهبية على الأرض. الفلاحون يسيرون بخطوات هادئة نحو الحقول، يحملون المجارف وأدوات الزراعة، ووجوههم مشرقة رغم حرارة الشمس المتزايدة، كأنهم يشاركون الأرض قصة حياتهم، ويرويها تمر النخيل والزيتون لهم. النساء اللواتي يقمن منذ الصباح الباكر بأعمال البيت والزراعة يتحركن بين الأفران الطينية والحقول، يصنعن الخبز التقليدي، ويجهزن التمر والزيتون، بينما تتصاعد رائحة الطعام الذي يعبق في الهواء، جاعلة الزائر يشعر بالدفء والطمأنينة وكأنه جزء من هذه الحياة.

الأطفال يلعبون بحرية بين السواقي والنخيل، يركضون ويلتقطون خيوط الضوء المتساقطة بين الأشجار، ويستمعون لتوجيهات الشيوخ الذين يجلسون في الظل، يراقبون حركة الماء، ويعلّمونهم كيفية توزيع الأرض والثمار وفق نظام عادل، يضمن للجميع حقه ويزرع في نفوسهم معنى المشاركة والعمل الجماعي. كل حاسة في سكّورة مستيقظة: البصر يلتقط ألوان الأخضر والذهبي والبرتقالي، والشم يستنشق رائحة التراب بعد المطر، والسمع يلتقط خرير الماء، وصوت الضحكات، واللمس يحس حرارة الطين وبرودة ظل النخيل.

ومن أبرز معالم سكّورة التاريخية، قصبة أمريديل، التي صمدت لأكثر من خمسة قرون، شاهدة على عبقرية أبناء المنطقة وحكمة أسلافهم في بناء المدن والقلاع. جدرانها الطينية المزخرفة، أبراجها العالية، ونوافذها الصغيرة لم تكن مجرد معمار، بل لغة تاريخية تتحدث مع كل زائر. هنا عبرت القوافل التجارية، وحملت الرياح قصص الرحّل والتجار والفلاحين، وهنا صاغ الزمن معاني الصبر والعمل والاجتهاد. ظهور القصبة في أفلام عالمية لم يكن صدفة، فهي ليست مجرد مبنى أثري، بل شخصية حيّة، تحمل روح المكان وتجعل الزائر يشعر وكأنه يلمس التاريخ بأصابعه ويشم عبق قرون من الحياة اليومية التي تجمعت بين الطين والماء والنخيل.

الحياة في سكّورة تتنوع على مدار اليوم، كل لحظة فيها تحمل مشهدًا جديدًا: مع شروق الشمس، يلمع ضوء الذهب على قمة النخيل، والطيور الصغيرة تغرد في كل مكان. في منتصف النهار، تتضح خطوط الظل على الأرض، تتحرك مع نسيم الصحراء، ويستريح السكان تحت ظل النخيل، بينما تستمر النساء في العمل، والأطفال في اللعب، والفلاحون في حرث الأرض والاعتناء بالمواشي. ومع الغروب، تتحول الواحة إلى لوحة ذهبية، حيث تتلألأ قصبة أمريديل تحت الضوء الغائب تدريجيًا، ويصبح خرير السواقي الموسيقى الصامتة التي تودّع الزائر، فتشعر وكأن المكان يهمس لك أسرار الحياة والصبر والصمود.

ومواسم سكّورة تضيف بعدًا آخر للحياة: موسم التمر، موسم الزيتون، موسم حصاد الرمان والورد، ومواسم الأعشاب الطبية. كل موسم هو مناسبة للاحتفال والعمل معًا، حيث الفلاحون والنساء والأطفال يتعاونون، والأغاني المحلية تصدح في الأجواء، ورائحة الطعام التقليدي تغمر المكان. موسم التمر على وجه الخصوص هو وقت العمل الجماعي، حيث تتسلق الرجال النخيل لجمع الثمار، وتقوم النساء بفرزها وتجهيزها، والأطفال يشاركون في اللعب والمرح بين الحقول، بينما تتصاعد أصوات الأغاني الشعبية التي تغني للحياة والأرض والعمل الجماعي. أما موسم الزيتون فهو احتفال آخر، حيث تملأ أصوات الضحكات والطرقات الهوائية أرجاء الواحة، وينشط التبادل الاجتماعي بين القرى المجاورة، وتُصنع أطباق جديدة تعكس الثقافة المحلية وروح التعاون.

ورغم جمالها الأخّاذ، تواجه سكّورة تحديات العصر الحديث: تغيّر المناخ يقلل من الأمطار، والمياه الجوفية تتناقص، والشباب يهاجر إلى المدن الكبرى، وتتراجع الأراضي الزراعية. لكن أهلها يواصلون الصمود بصبر هادئ، كما تفعل النخلة التي تميل للريح دون أن تنكسر. الجمعيات المحلية والمبادرات البيئية تعمل بلا كلل على حماية الخطارات القديمة، وإحياء الزراعة التقليدية، وتشجيع السياحة البيئية، وتطوير مشاريع اقتصادية صغيرة للشباب، للحفاظ على إرث الواحة الطبيعي والثقافي الفريد.

سكّورة ليست مجرد مناظر طبيعية، بل درس حيّ في الإدارة الحكيمة للأرض والموارد. كل حقل، كل ساقية، وكل نخلة هنا يشهد على تجربة إنسانية عميقة، قائمة على العدالة والتشارك، والصبر الطويل، والإبداع في مواجهة التحديات. تعلم الواحة أن النجاح الحقيقي لا يُقاس بالمال أو القوة، بل بالقدرة على التكيف والحفاظ على التوازن بين الإنسان والطبيعة والمجتمع.

وبينما تغرب الشمس خلف جبال الأطلس، تتحول النخيل إلى ظلال ذهبية، وتتلألأ قصبة أمريديل تحت الضوء، ويخفت خرير السواقي لتصبح الموسيقى الصامتة الحاضرة، ويشعر الزائر وكأنه في حلم حي. كل منظر هنا يذكّر بأن سكّورة ليست مجرد مكان يُرى، بل تجربة تُعاش، وفلسفة تُفهم، وحياة تُحتفل بها كل يوم: دروس في الصبر، والحكمة، والانتماء، والإبداع، والتوازن.

عند مغادرتك سكّورة، ستظل تحمل معك جزءًا من روحها: ظل نخلة في الصباح، خرير الماء بين الحقول، رائحة الطين بعد المطر، ضحكات الأطفال، وابتسامات السكان الذين يقفون كحراس صامتين لواحة لا تموت. سكّورة ليست مجرد واحة، بل رمز للحياة، للصمود، ولقدرة الإنسان على التآلف مع الطبيعة. إنها قلب الجنوب الشرقي النابض، وشاهد على أن التاريخ يمكن أن يُكتب بين جذور النخيل، وأن الضوء يمكن أن يولد من قلب الصحراء.

واحة سكّورة… ليست مكانًا فقط، بل حكاية لا تنتهي، ووعد بالحياة، ونور يظل ينبعث عبر السنين، وحكمة تعلم كل من يزورها معنى الصبر والجمال والعمل المشترك. إنها نافذة على روح الإنسان والطبيعة والتاريخ، رسالة لكل من يزورها بأن الحياة ممكنة مهما كانت الظروف، وأن الأرض الأم تكافئ من يعرف كيف يحميها ويزرع فيها الخير.
السنة، بأ
مع مرور الأيام في سكّورة، يبدأ الزائر بفهم أن الواحة ليست مجرد نخيل وماء وطين، بل مكتبة مفتوحة للحياة. هنا، كل صباح يحمل معه فرصة لاكتشاف تفاصيل جديدة: رائحة الخبز الطازج الذي يُخبز في أفران الطين القديمة، صوت خرير الماء في السواقي، ضحكات الأطفال الذين يركضون بين النخيل والسواقي، وأحيانًا نباح الكلاب الصغيرة التي تراقب الأبقار والماعز في الحقول. كل حاسة من حواس الزائر تتفاعل مع الحياة هنا، وكل لحظة تحمل رسالة عن الصبر والعمل الجماعي والتآزر بين الإنسان والطبيعة.

الطقس في سكّورة له دوره الخاص في تشكيل الحياة اليومية. في الصباح الباكر، يكون الهواء باردًا نسبيًا، والضباب الخفيف يكسو أطراف الواحة، فيما تتسلل أشعة الشمس لتغمر النخيل والحقول بالضوء الذهبي. مع اقتراب الظهر، ترتفع الحرارة، وتحتاج الأيدي العاملة في الحقول إلى الصبر والتحمل، وتلجأ العائلات إلى الظل والنخيل، حيث يروي الشيوخ حكايات عن أجدادهم وقصص القوافل القديمة. ومع غروب الشمس، يتحول الجو إلى هدوء مطمئن، يتخلله نسيم خفيف يحمل رائحة التراب والرطوبة، فيما تظهر النجوم واحدة تلو الأخرى في سماء صافية كبلورات، وكأن الكون يراقب حياة البشر والصحراء معًا.

الواحة تزخر أيضًا بالأنشطة الموسمية والثقافية. موسم التمر هو أزهى الأوقات؛ تتسلق العائلات النخيل، وتجمع الثمار، بينما تجلس النساء لفرزها وتجهيزها للاستهلاك أو البيع. الأغاني الشعبية تُسمع في كل زاوية، يشارك الأطفال والرجال والنساء في الاحتفال، وتتحول الواحة إلى فضاء ينبض بالحياة والعمل الجماعي. موسم الزيتون لا يقل روعة، حيث تُقطف الثمار، وتضغط في المعاصر التقليدية، وينبعث زيت طازج يملأ المكان برائحة الفواحة، فيصبح الطعام في كل بيت مزيجًا من الجهد والتراث والمهارة.

الأطعمة التقليدية في سكّورة تحمل عبق التاريخ وروح الواحة: الطاجين بالتمر والزيتون، الخبز المصنوع في الأفران الطينية، العصيدة، والحلويات المصنوعة من دقيق القمح والتمر. كل طبق يُقدّم في مناسبة، يحمل حكاية عن الأرض والعمل والتعاون بين السكان. حتى الشاي التقليدي، المنقوع بالنعناع، يُعد طقسًا صغيرًا يجمع الناس حوله بعد يوم طويل من العمل في الحقول، حيث تُروى الحكايات، وتُتناقل الخبرات، ويستعيد الكبار ذكريات الماضي، بينما يستمع الأطفال بشغف.

وليس فقط الإنسان والطبيعة، بل الحياة البرية والنباتية في سكّورة تحكي قصة استدامة حقيقية. الطيور المهاجرة تتوقف في الواحة في أوقات محددة، والحيوانات الصغيرة مثل الأرانب والماعز تنسجم مع حياة البشر، بينما الأعشاب البرية والنباتات الطبية تنمو في الزوايا التي لم تصل إليها يد الإنسان بعد، لتشكل تنوعًا بيئيًا يضيف بعدًا آخر لروح الواحة.

أما القصص اليومية لسكان سكّورة، فهي كنوز صغيرة تكشف عن عمق العلاقة بين الإنسان والواحة. هناك الفلاح الذي ورث أرضه عن أجداده منذ قرون، ويعرف كل ساقية وكل نخلة بجذورها، ويحدثك عن كل موسم وكأنها قصة تحكي صبر الأجيال. وهناك المرأة التي تصنع الخبز والزيوت والتمر بمهارة فائقة، وتعلم الأطفال كيف يعتنون بالأرض والنباتات. الأطفال أنفسهم يتعلمون منذ الصغر معنى التعاون، والمشاركة، واحترام الآخرين، والطبيعة.

ومع مرور الفصول، تتغير الواجهة الطبيعية للواحة، فتزداد جمالًا مع كل موسم. في الربيع، تزهر الأزهار البرية بين النخيل، فتنتشر الروائح وتملأ المكان بالحياة. في الصيف، ترتفع الحرارة ويصبح الظل تحت النخيل ملاذًا للحياة اليومية. في الخريف، يأتي موسم الحصاد، وتظهر احتفالات العمل الجماعي، وتغني الأغاني الشعبية. أما الشتاء، فهو فترة الراحة، وتجهيز الأرض، وتبادل الخبرات بين الكبار والصغار.

واحة سكّورة، بهذا، ليست مجرد مكان للعيش والزراعة، بل حاضنة للثقافة والفلكلور، ومدرسة للصبر والمثابرة، وملتقى للتاريخ والحياة اليومية، ومختبر للاستدامة البيئية والاجتماعية. إنها تجربة متكاملة تشبع العين والسمع والشم واللمس، وتمنح الزائر شعورًا بالانتماء للأرض والطبيعة والإنسان.

واحة سكّورة… ليست مجرد واحة، بل قصة مستمرة عن الحياة، الصبر، العمل، التعاون، والحكمة التي تعلّمها الطبيعة والإنسان معًا، رسالة لكل من يزورها بأن الأرض تمنح من يحميها، وأن الحياة ممكنة حتى في أصعب الظروف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

النشرة الإخبارية

اشترك الآن في النشرة البريدية لجريدتنا، لتصلك آخر الأخبار يوميا

حمل تطبيق نشرة

من نحن؟

جريدة رقمية مستقلة، تهدف إلى تقديم محتوى خبري وتحليلي موثوق، يعكس الواقع بموضوعية ويواكب تطورات المجتمع. نلتزم بالشفافية والمهنية في نقل الأحداث، ونسعى لأن نكون منصة إعلامية قريبة من القارئ، تعبّر عن صوته وتلبي اهتماماته.