الإثنين 11 أغسطس 2025 16:48

عزيز أخواض يكتب: المفكرون الأجانب يحذرون… والأمم تتسلى حتى سقوطها

 

لم يعد المشهد الأخلاقي في عالم اليوم مجرد انحرافات فردية عابرة، بل صار منظومة متكاملة من الانحلال والتدهور القيمي، تحكمها ثقافة استهلاكية سريعة، تفرض أنماط السلوك وتعيد تشكيل المعايير، بحيث يصبح ما كان مرفوضًا بالأمس أمرًا عاديًا اليوم.

 

الفيلسوف الفرنسي ألكسيس دو توكفيل نبّه قبل قرنين إلى أن المجتمعات قد تسقط أخلاقيًا ليس بالقمع المباشر، بل بقبول الأغلبية لما هو سهل وسطحي، وفرضه معيارًا عامًا. هذا ما نشهده اليوم: ما يلقى التصفيق والانتشار هو ما يرضي ذوق الجمهور اللحظي، ولو كان بلا قيمة، بينما المعارف العميقة والخطابات الإصلاحية تواجه تهميشًا مقصودًا أو غير مقصود.

 

عالم الاجتماع زيغمونت باومان قدّم وصفًا حادًا لما أسماه “الحداثة السائلة”، حيث تنهار الثوابت وتصبح القيم والعلاقات أشبه بمياه تتسرب بين الأصابع. لم تعد هناك روابط قوية أو التزامات طويلة الأمد، بل مواقف آنية تتغير مع أي موجة رأي جديدة. هذه السيولة القيمية جعلت الهوية الإنسانية هشة، عُرضة للتقلب والتشوه.

 

إريك فروم، عالم النفس الاجتماعي، كتب في كتابه “الهروب من الحرية” عن أن الإنسان حين يفقد المعنى العميق للحياة، يهرب إلى الملذات اللحظية بحثًا عن تعويض نفسي. وهذا ما يفسر كيف أصبحنا نرى حشودًا هائلة تتدافع نحو أنشطة ترفيهية سطحية، بينما المحاضرات الفكرية أو النقاشات العلمية بالكاد تجد جمهورًا.

 

الكاتب الأمريكي نيل بوستمان، في “التسلية حتى الموت”، حذّر من أن المجتمعات قد تدمّر نفسها عبر إغراق مواطنيها في موجة متواصلة من الترفيه، تُخدّر العقول وتمنع التفكير النقدي. الأمر لم يعد تهديدًا مستقبليًا، بل واقعًا نعيشه: شباب يقضي ساعات أمام محتوى فارغ، يتشكل وعيه من مقاطع لا تتجاوز ثواني معدودة، وعقل لا يجد وقتًا للتأمل أو التساؤل.

 

أما جورج أورويل، فرغم أنه اشتهر بروايته “1984” التي تصور قمع الحرية بالقوة، فقد أشار في مقالاته إلى خطر آخر: حين لا تُصادر الكتب ولا تُمنع الأفكار، بل يُغرق الناس في توافه الأمور حتى لا يعودوا يهتمون بما هو مهم. وهذا ما يعيشه جيل اليوم، حيث لم تعد المشكلة في نقص المعلومات، بل في غياب الرغبة في البحث عنها وسط ضجيج اللامعنى.

 

النتيجة الواضحة هي أن المجتمع الذي يعتاد الانحلال الأخلاقي، يفقد مع مرور الوقت جهازه المناعي القيمي، فيصبح سهل الاختراق من القوى السياسية والاقتصادية التي توجّه سلوكه كما تشاء. ومن هنا، فإن المعركة الحقيقية ليست على مستوى السياسة أو الاقتصاد فحسب، بل على مستوى الوعي والأخلاق.

 

استعادة القيم لا تعني العودة إلى الوراء بشكل أعمى، بل تعني استعادة العمق والمعنى، وتأسيس منظومة تربوية وإعلامية ترفع من شأن الفضيلة والمعرفة، لا التفاهة والابتذال. فالأمة التي تعرف ما هو الصواب، تعرف ما الذي يستحق أن يُدافع عنه، وما الذي يجب أن يُرفض، مهما كانت الضغوط.

 

إن أخطر ما نعيشه اليوم ليس فقط الانحلال الأخلاقي، بل اعتيادنا عليه. أن يمر أمامنا المشهد الفاضح أو السلوك المنحط، فنبتسم أو نتجاهل أو حتى نشارك، وكأننا فقدنا القدرة على الغضب النبيل. في زمن الجاهلية الأولى، كان الانحراف سلوكًا ظاهرًا يُدان، أما في جاهلية اليوم، فقد صار قاعدة غير معلنة، يلبس ثوب الحرية والتطور. حين يصل المجتمع إلى هذه المرحلة، لا يحتاج الشيطان أن يبذل جهدًا كبيرًا؛ فهو يكتفي بالمشاهدة، وقد يبتسم ساخرًا وهو يرى القيم تُسقط بأيدينا. والسؤال الذي يبقى معلقًا: هل سنبقى جيل المتفرجين على انهيارنا، أم سنكون من القلة التي ترفض وتقاوم، ولو بصوت واحد، قبل أن يُطوى آخر فصل من حكاية هذه الأمة؟

 

 

تحرير: عزيز أخواض

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

النشرة الإخبارية

اشترك الآن في النشرة البريدية لجريدتنا، لتصلك آخر الأخبار يوميا

حمل تطبيق نشرة

من نحن؟

جريدة رقمية مستقلة، تهدف إلى تقديم محتوى خبري وتحليلي موثوق، يعكس الواقع بموضوعية ويواكب تطورات المجتمع. نلتزم بالشفافية والمهنية في نقل الأحداث، ونسعى لأن نكون منصة إعلامية قريبة من القارئ، تعبّر عن صوته وتلبي اهتماماته.