الأحد 10 أغسطس 2025 05:35

الفقه الدستوري يبين دور المحكمة الدستورية في تعزيز لبنات دولة الحق والقانون

لا يمكن لأي مراقب حصيف أن يمر مرور الكرام على ما جرى بخصوص مشروع قانون المسطرة المدنية رقم 23.02، والذي شكل مناسبة جديدة تكشف عن أزمة عميقة في طريقة إنتاج التشريعات بالمغرب. ما أشار إليه الأستاذ علال البصراوي، نقيب المحامين السابق، يلخص بذكاء هذا الخلل البنيوي: أغلبية برلمانية تأتي بمشروع، تصادق عليه بأريحية عددية، ثم تحيله هي نفسها إلى المحكمة الدستورية، في سلوك يطرح أكثر من سؤال حول جدية العمل التشريعي ومصداقية المؤسسات.
الأمر لا يقف عند حدود هذه المفارقة الغريبة، بل يمتد إلى جوهر الإشكال: مشروع القانون المطعون فيه كان موضوع اتفاق بين وزارة العدل وجمعية هيئات المحامين بالمغرب، ومع ذلك أطاح قرار المحكمة الدستورية بالمشروع وبالاتفاق معًا، ليكشف أن التوافقات الشكلية، حين تغيب عنها التشاركية الحقيقية، مصيرها السقوط أمام أول اختبار جدي. كيف يعقل أن يتم الاتفاق على مقتضيات تمس بشكل مباشر وواضح حقوق الدفاع، كما في المواد 17 و84 و90 و107؟
وهنا يأتي الدور الحاسم للقراءة الأكاديمية الدقيقة التي قدمها الدكتور جمال رياض، الخبير المعترف به في القانون الدستوري والعلوم السياسية، والحاصل على عدة شهادات عليا في مجالات القانون العام والعلوم السياسية، والذي أوضح بالحجة والنصوص الدستورية أن المحكمة الدستورية لم ترفض المشروع عبثًا أو استجابة لأي ضغط، بل بناءً على خروقات واضحة تمس فصولًا صريحة من الدستور، هي الفصل 118 الذي يضمن حق التقاضي للجميع، والفصل 120 الذي يكفل حقوق الدفاع وضمانات المحاكمة العادلة، والفصل 121 الذي ينص على المساعدة القضائية لمن لا يملك الإمكانيات.
وقد شملت المواد غير الدستورية من المشروع، على سبيل المثال لا الحصر: المادة 17 التي تسمح للنيابة العامة بالطعن في الأحكام دون أي قيود زمنية، وهو ما يحد من استقرار المراكز القانونية ويمس بحق الدفاع؛ والمادة 84 التي لم تراعي التنظيم الإجرائي للتبليغ ضمن النطاق الموضوعي للمسطرة المدنية، وفق مقتضيات لا لبس فيها ولا إبهام، وهو ما قد يمس بمبدأ الأمن القانوني، والمقتضيات التي أحالت على المقطع المذكور أعلاه، في المواد 97 و101 و103 و105 و123 في فقراتها الأخيرة ومواد أخرى؛ و المادة 90 التي خالفت الدستور من حيث الضمانة الدستورية لحقوق الدفاع أمام جميع المحاكم، ومبدأ علنية الجلسات والاستثناءات التي ترد عليه قانونا؛ والمادتين 107 و364 اللتان تجدان من الحق في التعقيب على مستنتجات المفوض الملكي للدفاع عن القانون في مخالفة صريحة لمبدأ التواجهية الذي يترتب، من الناحية الإجرائية، على الكفالة الدستورية لحقوق الدفاع؛ و المادة 339 التي حصرت تعليل القرار في حالة رفض الطلب فقط، وهو ما لا يتطابق والمقتضى الدستوري حين أوجب الفصل 125 من الدستور أن “تكون الأحكام معللة…”، على سبيل الإطلاق ؛ و المادة 408 التي تجيز لوزير العدل أو للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، أن يقدم طلب الإحالة إلى هذه المحكمة المقررات التي قد يكون القضاة تجاوزوا فيها سلطاتهم”، في مخالفة صريحة للفصل الأول من الدستور الذي ينص على أنه: “يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط…”، وهو نفس التعليل المتعلق بالمادتين 624 و628.
هذه المقتضيات، كما بيّن الدكتور رياض، لا تتعارض فقط مع نصوص الدستور، بل مع المبادئ الكونية للمحاكمة العادلة، وهو ما جعل قرار المحكمة الدستورية بمثابة انتصار للحقوق والحريات الأساسية، وليس كما يحاول البعض تصويره كتصادم مع وزارة أو جهة معينة.


كما أشار الدكتور جمال رياض إلى أن المحكمة الدستورية لم تبسط رقابتها على جميع مقتضيات القانون رقم 02.23 المتعلق بالمسطرة المدنية وإنما اكتفت بالمواد والمقتضيات التي بدت لها بشكل جلي وبيّن أنها غير مطابقة للدستور أو مخالفة له، تاركة باقي المواد للنظر فيها في إطار المراقبة البعدية التي سيعمل بها بعد المصادقة على القانون التنظيمي المتعلق بإجراءات تفعيل مسطرة الدفع بعدم الدستورية والذي سبق لها أن بثت في عدم دستورية بعض مقتضياته. للإشارة، فهذه التقنية يعمل بها أيضا في التجارب المقارنة، حيث أن إحالة القانون على القاضي الدستوري لفحص دستوريته برمته (الاحالة البيضاء) دون تحديد المواد المشكوك فيها لا يلزم القاضي في بسط رقابته على جميع المقتضيات في ان واحد، وهذا النهج نجد مثالا له في القرار رقم 2023-863 الصادر عن المجلس الدستوري الفرنسي بتاريخ 25 يناير 2024.
وقد اعتمدت المحكمة الدستورية على هذه التقنية تفعيلا لإرادة المشرع الدستوري الرامية إلى ضمان التكامل بين الرقابتين القبلية الاختيارية والبعدية في إطار الدفع بعدم دستورية القوانين، تحقيقا لسمو الدستور وحماية للحريات والحقوق الأساسية التي يكفلها بموجب أحكامه، ولا سيما بالنسبة للنص المعروض الذي تنتظم به إجراءات الدعاوى الخاضعة للمسطرة المدنية.
وعرج الدكتور جمال رياض على بعض المقتضيات الأخرى في قانون المسطرة المدنية التي لم تكن محل رقابة القاضي الدستوري في قراره رقم 255.25، والتي قد يشوبها عيب عدم الدستورية، مما سيجعلها موضوعا للدعوى المستقبلية في إطار مسطرة الدفع بعدم الدستورية، فخص بالذكر المادتان 30 و31 اللتان ضيقتا من حق التقاضي عبر تحديد اختصاص المحاكم وقيمة القضايا بما يحرم بعض المتقاضين من الاستئناف على درجتين، والمادة 32 التي منعت الطعن أمام المحكمة الابتدائية بحكم نهائي خلال أجل 15 يومًا، في مساس صريح بضمانات الدفاع، والمادة 78 التي جعلت مكتب المحامي محلًا للمخابرة دون موافقته في خرق لسرية الدفاع، والمادة 93 التي فرضت غرامة على من يخالف الاحترام في المحكمة دون تمكينه من حق الاستئناف.
المؤسف أن هذه الانزلاقات التشريعية تتكرر، وأن الحكومة والسلطة التشريعية لم تتعلم بعد أن الدستور ليس مجرد ورقة للتزين السياسي، بل عقد اجتماعي ملزم وحامٍ للحقوق أمام أي تغوّل أو استسهال في صياغة القوانين، وهو ما يبرز دور المحكمة الدستورية التي، حسب الدكتور رياض، تؤدي دورها بكل حيادية تجاه أطراف الإحالة، و أن قرارها مستقل لا يخضع لأي تأثير و لا يحتاج للترحيب من أي طرف، بل يجب التعامل معه بجدية والتزام والعمل على تعديل المقتضيات المخالفة للدستور، فقرارها المتعلق بعدم دستورية بعض أحكام قانون المسطرة المدنية ليس فقط ممارسة دستورية، بل انتصار لمبادئ دستورية أساسية ولا يصح تفسير قرار المحكمة على أنه تصادم مع أي جهة أو وزارة، ولا يحتاج القرار إلى ترحيب وزارة العدل كي يكون نافذًا، إذ أن الدستور يمنحه حجية مطلقة وملزمة للجميع وغير قبل للطعن
إننا نتفق مع الأستاذ البصراوي في إدانة هذا العبث الحكومي والتشريعي، ونتبنى ما جاء في التحليل الأكاديمي للدكتور جمال رياض كحجة قاطعة: احترام الدستور ليس خيارًا سياسيًا، بل واجب قانوني وأخلاقي، وأي تشريع يضرب في العمق حقوق الدفاع والحق في التقاضي، مصيره السقوط أمام المحكمة الدستورية مهما كانت هوية من صاغه أو حجم الأغلبية التي صادقت عليه.

تحرير: عزيز أخواض

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

النشرة الإخبارية

اشترك الآن في النشرة البريدية لجريدتنا، لتصلك آخر الأخبار يوميا

حمل تطبيق نشرة

من نحن؟

جريدة رقمية مستقلة، تهدف إلى تقديم محتوى خبري وتحليلي موثوق، يعكس الواقع بموضوعية ويواكب تطورات المجتمع. نلتزم بالشفافية والمهنية في نقل الأحداث، ونسعى لأن نكون منصة إعلامية قريبة من القارئ، تعبّر عن صوته وتلبي اهتماماته.