الأربعاء 30 يوليو 2025 14:51

عيد العرش بالمغرب: دلالات رمزية ورهانات جيوسياسية في سياق بناء الدولة وتجديد الشرعية

✍️ الاستاذ عبد المنعم زبار

في خضم عالم مضطرب، تتسارع فيه التحولات الجيوسياسية، وتتعاظم التحديات المرتبطة بالأمن الإقليمي، واستقرار التحالفات، وتوازن القوى، تبرز الرموز الوطنية بوصفها أدوات فاعلة في بناء الشرعية، وتعزيز اللحمة الداخلية، وممارسة أدوار استراتيجية على المستوى الدبلوماسي، إن الدول لا سيما تلك التي تتمتع بعمق حضاري ومؤسساتي كالمغرب، غالبا ما توظف رموزها السياسية والتاريخية لتوجيه رسائل مزدوجة: رسائل داخلية تعزز وحدة الصف الوطني، وأخرى خارجية تندرج ضمن منطق الترافع السياسي والدبلوماسي الهادئ والمستمر.

في هذا السياق، يبرز عيد العرش في المغرب كإحدى أبرز المناسبات الوطنية التي تتجاوز في مدلولها مجرد الطابع الاحتفالي أو الطقوسي، لتتحول إلى لحظة سياسية مؤسسة، تستبطن في عمقها فعلا تواصليا مركزيا بين المؤسسة الملكية والمجتمع من جهة، وبين الدولة المغربية ومحيطها الإقليمي والدولي من جهة أخرى، فمنذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس العرش سنة 1999، أصبحت خطب العرش تشكل منصات خطابية عالية الرمزية توجه الرأي العام الوطني، وتعلن ملامح الرؤية الاستراتيجية للدولة، وتؤطر مواقف المغرب في قضايا مصيرية، على رأسها ملف الوحدة الترابية، والرهانات التنموية، والسيادة الوطنية في أبعادها الاقتصادية والسياسية والثقافية.

ومن هذا المنطلق، سنسعى إلى تقديم قراءة تحليلية ومقارنة لخطب العرش خلال الفترة الممتدة من 2020 إلى 2025، باعتبارها مرآة تعكس تحولات الدولة المغربية في محيط شديد التقلب، ولأنها تشكل في العمق أحد أدوات الترافع الرمزي والدبلوماسي الذي تمارسه الدولة بوعي استراتيجي، كما يحاول المقال أن يبرز كيف أن رمزية البيعة، باعتبارها لحظة تأسيسية في عيد العرش، قد تم توظيفها سياسيا في تعزيز الخطاب السيادي للمغرب، سواء في مواجهة التحديات الداخلية أو في سياق إعادة تشكيل توازنات القوة في منطقة شمال إفريقيا والساحل والصحراء، بل وأبعد من ذلك في إفريقيا جنوب الصحراء وأوروبا وأمريكا اللاتينية.

رمزية عيد العرش ومؤسسة البيعة في المغرب: من الجذور الشرعية إلى الأبعاد الدستورية والدبلوماسية

يمثل نظام البيعة في المغرب إحدى الركائز المؤسسة للشرعية السياسية والدينية للدولة، وهو تقليد أصيل يجمع بين البعد الفقهي التاريخي والامتداد الدستوري الحديث، فعلى المستوى الشرعي، تستند البيعة إلى المرجعية المالكية التي تُقر بإمارة المؤمنين بوصفها صيغة دينية-سياسية تضمن وحدة الأمة واستمرارية الحكم في إطار من المشروعية، أما على المستوى التاريخي، فقد تكرست هذه الممارسة كعرف سياسي منذ قرون، حيث تجدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم على أساس من التعاقد الرمزي، تختصر فيه شرعية القيادة وتعزز فيه وحدانية المرجعية، وبعد الاستقلال تم ترسيخ هذه الرمزية ضمن البنية المؤسساتية للدولة الحديثة، حيث ارتبطت البيعة بعيد العرش بشكل هيكلي، باعتبارها لحظة سنوية يجتمع فيها الطابع الاحتفالي مع تجديد الولاء السياسي والديني، وقد عرفت هذه الرمزية تطورا ملحوظا في العقود الأخيرة، بحيث لم تعد محصورة في طقس تقليدي، بل تحولت إلى أداة دستورية ذات دلالة استراتيجية، تستثمر في ترسيخ السيادة الوطنية داخليا، وفي تقوية موقع المغرب التفاوضي خارجيا، خاصة في القضايا الكبرى وعلى رأسها ملف الصحراء المغربية، حيث يتم توظيف رمزية البيعة لإبراز استمرار الشرعية التاريخية للمؤسسة الملكية على الأقاليم الجنوبية، في مقابل الأطروحات الانفصالية التي تفتقر إلى سند سياسي أو اجتماعي أو ديني مشروع.

خطب العرش بين 1920 و4202: قراءة تحليلية في التحول الوظيفي للخطاب الملكي بين الداخل والدبلوماسية

تشكل خطب العرش، التي يلقيها جلالة الملك محمد السادس في 30 يوليوز من كل سنة، مرآة عاكسة لمستوى تطور الأداء السياسي والدبلوماسي المغربي، فضلا عن كونها وثيقة توجيهية ترسم ملامح المرحلة المقبلة في ضوء المتغيرات الوطنية والدولية، خلال الفترة الممتدة من 2019 الى 2024، عكست خطب العرش تفاعل المغرب مع تحولات بنيوية متسارعة.

حيث جاء خطاب العرش لسنة 2019 في سياق داخلي يطغى عليه تصاعد مطالب العدالة الاجتماعية وتحقيق الإنصاف المجالي، خاصة في أعقاب الحركات الاحتجاجية التي عرفتها بعض المناطق خلال السنوات السابقة. ركز الخطاب على ضرورة تعزيز الثقة بين المواطن والمؤسسات، واعتبر أن نجاح النموذج التنموي رهين بإشراك الكفاءات الوطنية وتجاوز الأعطاب الإدارية. كما وجه جلالة الملك دعوة صريحة إلى بلورة نموذج تنموي جديد يكون أكثر نجاعة وواقعية، وهي الدعوة التي أفضت لاحقًا إلى تشكيل “اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي”. وقد تضمن الخطاب أيضًا إشارات واضحة إلى ربط التنمية بالعدالة المجالية، والتوزيع العادل للثروة، ما يعكس تحوّلًا نوعيًا في الخطاب الملكي نحو تعميق الإصلاح الهيكلي، بوصفه قاعدة أساسية لتعزيز المنعة الوطنية في بعدها الاقتصادي والاجتماعي، وهي رسائل لا تنفصل عن الأبعاد الاستراتيجية في الترافع الإقليمي والدولي، حيث تبرز التنمية الشاملة كمصدر من مصادر الشرعية الداخلية والقوة التفاوضية الخارجية.

بينما خطاب سنة 2020 كان في خضم جائحة كوفيد-19 ليؤكد على أولويات التضامن الوطني، وتقوية المنظومة الصحية، وتعزيز الاستباقية الاستراتيجية، في لحظة دولية ميزها الارتباك العالمي أما خطاب 2021، فقد جاء مباشرة بعد إعلان الولايات المتحدة اعترافها بمغربية الصحراء، فتمحور حول تثبيت السيادة الوطنية، وتثمين دعم الدول المؤيدة لمقترح الحكم الذاتي، مما منح الخطاب طابعًا سياديًا واضحًا يُدرج ضمن مكونات “الدبلوماسية الرمزية”.

وفي خطاب 2022، طغت لغة الانفتاح على الجوار، حيث دعا الملك إلى إعادة فتح الحدود مع الجزائر، بدون شروط مسبقة، في إطار خطاب يزاوج بين الواقعية السياسية ومبدأ حسن الجوار، مع استباق التوترات الإقليمية المتصاعدة في منطقة الساحل والمغرب الكبير، بينما جاء خطاب 2023 موجها نحو التمكين الاقتصادي، داعيا إلى تعزيز السيادة في مجالات الماء والفلاحة والطاقة، في تفاعل واضح مع تداعيات الحرب الروسية–الأوكرانية، ما يشير إلى تكيف الخطاب الملكي مع مفاهيم الأمن القومي الموسع، أما خطاب 2024 فقد ركز على التموقع الدولي للمغرب، من خلال الدفع باتجاه شراكات جنوب–جنوب، والاستثمار في إفريقيا، مع الربط بين التنمية الاقتصادية والترافع السيادي عن القضية الوطنية، خاصة بعد تزايد الاعترافات الإفريقية بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية.

هكذا يتضح أن خطب العرش في هذا السياق لم تكن مجرد بلاغات سنوية، بل تحولت إلى وثائق سياسية ودبلوماسية تعكس التفاعلات الاستراتيجية للدولة المغربية مع بيئتها المتغيرة، وتشكل جزءًا من البنية الخطابية التي يستند إليها المغرب في دفاعه عن مصالحه الحيوية.

الدلالة الدبلوماسية لخطب العرش: نحو بناء خطاب سيادي في مواجهة التحديات الخارجية

لقد أضحت خطب العرش، ولا سيما منذ سنة 2021، إحدى الأدوات الأساسية في هندسة الترافع الدبلوماسي المغربي، من خلال ما تتضمنه من رسائل استراتيجية تؤطر توجهات الدولة وتعيد صياغة خطابها الخارجي بلغة سيادية واضحة، فقد كرست هذه الخطب ارتباطا عضويا بين السيادة الترابية والسياسة الخارجية، بما يجعل منها سندًا مرجعيًا ليس فقط للتوجيه الداخلي، بل أيضًا للدبلوماسية المغربية في المحافل الإقليمية والدولية. فقد استُثمرت مضامينها بشكل مباشر في البلاغات الرسمية والتقارير والمذكرات التي تقدمها وزارة الشؤون الخارجية، ولا سيما تلك المتعلقة بملف الصحراء المغربية، كما تم توظيفها في الدفاع عن الوحدة الترابية للمملكة داخل أروقة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والاتحاد الإفريقي، بما يضفي طابعًا مؤسساتيًا واستراتيجياً على الخطاب الملكي.

لقد مكنت قوة هذا الخطاب، من حيث وضوحه وحمولته السيادية، من توسيع دائرة الدعم الدولي لمبادرة الحكم الذاتي، باعتبارها مقترحًا جادًا وواقعياً ومتوافقًا مع الشرعية الدولية، ما ساهم في إعادة صياغة مواقف عدد من الدول الإفريقية التي بادرت إلى فتح قنصلياتها في العيون والداخلة، كترجمة فعلية للاعتراف بمغربية الصحراء. كما تجلّى هذا الأثر بشكل أكثر وضوحًا في التحولات اللافتة التي طرأت على موقفي إسبانيا وألمانيا، واللتين انتقلتا من مقاربة حذرة أو محايدة إلى تأييد مبادرة الحكم الذاتي، وهو ما اعتُبر انتصارًا دبلوماسيًا للمغرب يعكس نجاعة خطابه الاستراتيجي. بذلك، أضحت خطب العرش إحدى أهم أدوات الدبلوماسية الناعمة التي يعتمدها المغرب لتعزيز موقعه الإقليمي والدولي، وإعادة تشكيل تحالفاته بما يخدم قضاياه السيادية الكبرى.

ختاما، يتضح أن خطب العرش لم تعد مجرد لحظة احتفالية مرتبطة ببروتوكول سنوي، بل تحولت إلى وعاء استراتيجي يحمل ملامح التحول الذي تشهده الدولة المغربية في تعاطيها مع قضاياها الحيوية داخليا وخارجيا، فمن خلال توظيفها الدقيق للرموز السيادية والرسائل السياسية والدبلوماسية، أصبحت هذه الخطب مرجعا أساسيا في بلورة توجهات الدولة، ومكونا فعالا في استراتيجية الترافع الدبلوماسي المغربي، خصوصا في ما يتصل بملف الصحراء المغربية، كما أسهمت في ترسيخ شرعية البيعة في سياق دستوري حديث، وعززت من حضور المغرب في دوائر التأثير الإقليمي والدولي، بما يجعل من عيد العرش مناسبة ذات بعد رمزي واستراتيجي في آن واحد، تتقاطع فيها السياسة بالتاريخ، وتصاغ عبرها ملامح المستقبل الوطني في ظل عالم متغير.

 

 

 

تحرير: ادارة النشر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

النشرة الإخبارية

اشترك الآن في النشرة البريدية لجريدتنا، لتصلك آخر الأخبار يوميا

حمل تطبيق نشرة

من نحن؟

جريدة رقمية مستقلة، تهدف إلى تقديم محتوى خبري وتحليلي موثوق، يعكس الواقع بموضوعية ويواكب تطورات المجتمع. نلتزم بالشفافية والمهنية في نقل الأحداث، ونسعى لأن نكون منصة إعلامية قريبة من القارئ، تعبّر عن صوته وتلبي اهتماماته.

error: المحتوى محمي !!