الثلاثاء 14 أكتوبر 2025 09:13

مدى جدية الإصلاح واستعادة الثقة في القطاع الصحي بالمغرب.

هناك جدية ونية حسنة في جهود الإصلاح، لكن نجاح هذه الإصلاحات يعتمد بشكل أساسي على الطريقة التي يُدار بها القطاع. فالكيفية التي تُصرف بها الموارد، وتُدار بها الصفقات، وتُطبّق بها السياسات الإدارية، هي ما يحدد فعليًا مدى تحقيق الإصلاح. وفي ظل وجود نفوذ شخصي وعلاقات غير مهنية، قد تظل النوايا الحسنة محدودة التأثير، ويستمر هدر الإمكانيات دون تحسين ملموس للوضع الصحي للمواطنين.

 

شهدت مدينة أكادير خلال الأسابيع الأخيرة سلسلة من الاحتجاجات أمام المستشفى الجهوي، احتجاجات انطلقت من مطالب اجتماعية وصحية مشروعة، ثم امتدت لتشمل مراكز صحية أخرى في الجهة. وقد قام وزير الصحة خلال زيارته بتطبيق إجراءات مباشرة تضمنت توقيفات وعزل بعض المسؤولين، بالإضافة إلى تخصيص موارد عاجلة لدعم المرافق الصحية، في محاولة لمعالجة الخصاص وتحسين سير الخدمات بشكل ملموس. هذه الإجراءات، رغم طابعها المؤقت، لم تنجح في تهدئة الغضب الشعبي، بل أكدت على حجم التحديات التي تواجه القطاع وعلى الحاجة إلى إصلاحات أعمق.

 

التعامل مع الموجة الاحتجاجية عبر منع بعض الوقفات أمام المستشفيات أو في الساحات العمومية لم يوقف النقاش، بل أصبح محور جدل حول حق المواطنين في التعبير عن مطالبهم. وفي الوقت الذي يرى فيه المحتجون أن الوقفات والمسيرات السلمية هي الوسيلة الأبرز لإيصال أصواتهم، تراها السلطات، وفق قراءتها للمرحلة والظرفية، إلزامية ضبط النظام العام وضمان سير المرافق الصحية دون اضطراب. هذا التوازن بين حق التعبير والحفاظ على استقرار الخدمات يظل محور نقاش دائم ومستمر.

 

في خضم هذه النقاشات، راجت أخبار كثيرة في وسائل التواصل الاجتماعي وبعض المنابر الإعلامية حول تكليف ولي العهد الأمير مولاي الحسن بملف تتبع الوضع الصحي. ورغم أن هذه المعطيات لم يُؤكَّد منها بشكل رسمي، إلا أن مجرد تداولها يبرز حجم الانتظارات المجتمعية، ويعكس تعطش الناس لرقابة فعلية قادرة على معالجة مكامن الخلل. وهو ما قد يتحقق عبر لجان تفتيش وتقييم دقيقة، تراقب الصفقات والتجهيزات، بما يضمن للمريض بيئة علاجية كريمة: مبيت لائق، تغذية جيدة، أدوية متوفرة، وتجهيزات فعّالة تستجيب للحالات المستعجلة. كما أن الطبيب والأطر الصحية لا يمكن أن يؤدوا مهامهم إلا في فضاء منظم، متكامل، يوفّر الشروط الإنسانية والمهنية الضرورية. لكن ذلك يستوجب أيضاً تشديد الرقابة على الصفقات bons de commande التي كثيراً ما شابها “التبزنيس”، مساهماً في تعميق الأزمة بدل حلها.

 

ويرى المراقبون ومتتبعو الشأن المحلي أن هناك إمكانيات هائلة لتحسين القطاع الصحي، تتجاوز فقط البعد الإداري أو المراقباتي، لتصل إلى التدبير العقلاني للموارد المالية. ففي مدينة خريبكة، على سبيل المثال، شهدنا أواخر غشت 2025 نشاطاً لجمعية خُصّصت له إمكانات مالية ولوجيستيكية ضخمة، كان من الممكن أن تجهز مستشفى إقليمي بأكمله. غير أن تلك الموارد صُرفت في تظاهرة لم تخلّف أي أثر إيجابي على الإقليم، إذ اقتصرت الاستفادة على بعض الضيوف والجمعية المنظمة، بينما بقيت المرافق الصحية تعاني من خصاص مهول. لقد شمل الدعم تكاليف النقل عالي الجودة، الإقامة، والرحلات الجوية، في حين ظلّ المواطن البسيط يواجه صعوبات يومية في الحصول على أبسط خدمات العلاج. هذا المثال يكشف بوضوح عن حجم الخلل في ترتيب الأولويات، وعن الحاجة الملحّة إلى توجيه المال العام نحو ما يعود بالنفع المباشر على صحة المواطنين وكرامتهم.

 

وهنا يطرح السؤال نفسه: من المسؤول عن هذا الوضع؟ أليس من واجب المؤسسات الداعمة أن تراقب بدقة وتدقق في الغاية الحقيقية من توجيه أموالها، وألا تقتصر مساهمتها على وضع علامتها أو هويتها اللوجو فحسب؟ وأليس من دور المجلس الجماعي والسلطات المحلية أن يضبطوا مثل هذه الاختلالات ويضمنوا أن الموارد تنفق وفق الأولويات الوطنية الحقيقية؟ المسؤولية هنا جماعية، لكنها تبدأ أيضاً من داخلنا نحن المواطنين، من خلال المطالبة المستمرة بالإصلاح، وترسيخ ثقافة المحاسبة وربط المسؤولية بالنتائج، حتى لا تتكرر مثل هذه الصور العبثية التي تُهدر فيها إمكانات هائلة دون أن تعود بالنفع المباشر على الواقع الصحي والاجتماعي.

 

لكن الوقت الآن يتطلب منح الدولة فرصة لتصحيح مسارها، فالدولة ليست جسماً غريباً عنّا، بل هي نحن في وجوه متعددة: أبناء جلدتنا وإخواننا، جيراننا وأقاربنا. هي الامتداد الطبيعي لحياتنا اليومية، لذلك من واجبنا أن نتحد ونساهم في تفكيك مظاهر الفساد الإداري داخل قطاع الصحة، وأن نضع يدنا في اليد من أجل إصلاح حقيقي يضمن لكل مواطن الحق في العلاج الكريم. إننا نعرف أن هناك من يحاول استغلال الثغرات وإعاقة سير المرافق الصحية، لأسباب ربحية. لكن العمل الجماعي والمراقبة المستمرة يمكن أن يخفف من نفوذ هذه المافيات ويعيد الثقة للمواطن في قطاع حيوي لا غنى عنه.

 

الخلاصة: إن المنظومة الصحية في المغرب تحتاج اليوم إلى أكثر من توفيفات أو زيارات ظرفية؛ تحتاج إلى إدارة قوية، مراقبة صارمة، وإرادة سياسية واضحة تضع صحة المواطن فوق كل اعتبار. ذلك هو التحدي الحقيقي الذي سيقاس به مدى جدية الإصلاح، وبه وحده يمكن استعادة ثقة الشارع في مؤسساته.

تحرير: عزيز أخواض

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

النشرة الإخبارية

اشترك الآن في النشرة البريدية لجريدتنا، لتصلك آخر الأخبار يوميا

حمل تطبيق نشرة

من نحن؟

جريدة رقمية مستقلة، تهدف إلى تقديم محتوى خبري وتحليلي موثوق، يعكس الواقع بموضوعية ويواكب تطورات المجتمع. نلتزم بالشفافية والمهنية في نقل الأحداث، ونسعى لأن نكون منصة إعلامية قريبة من القارئ، تعبّر عن صوته وتلبي اهتماماته.