✍️ فاطمة الزهراء احموش
في البدء، كانت اللغة العربية أكثر من وعاء للمعنى؛ كانت ملجأ للروح، وبيتا للذاكرة، وجسرا بين الإنسان ووجدانه. هي اللغة التي حملت الشعر إلى أعلى مراتبه، وشكلت خطابا حضاريا امتدت ظلاله من المشرق إلى الأندلس. إنها اللغة التي استطاعت، عبر القرون، أن تحفظ هوية أمة وأن تحرس جوهر ثقافتها رغم تعاقب الغزاة وتبدل الأزمنة.
لكن هذا الكيان اللغوي المتين، الذي صمد أمام الاضطرابات التاريخية، يقف اليوم أمام امتحان جديد: امتحان الزمن الرقمي. زمن يبدو أنه لا يتيح لنا حتى فرصة التقاط الأنفاس. السرعة هي المعيار، والاختصار هو القاعدة، واللهجات تتسلل إلى كل شاشة. أمام هذا المد الجارف، تلوح الأسئلة الكبرى:
من يحرس جمال العربية اليوم؟ ومن يصون دقتها ورونقها في عصر تتراجع فيه المسافة بين الكلمة والضغط السريع على زر؟
ليس الحديث هنا عن حنين إلى ماض مثالي، بل عن حاجة معرفية وحضارية.
فقد أثبتت دراسة منشورة في مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية سنة 2025 تحت عنوان « اللغة العربية في الإعلام الرقمي: بين التحديات التكنولوجية والحفاظ على الهوية الثقافية » أن الفصحى تشهد تراجعا ملموسا في حضورها لصالح الكتابة الهجينة واللهجات العامية داخل المحتوى الرقمي، الأمر الذي يؤسس لخلخلة في الذائقة اللغوية ويضغط على بنية النص العربي ذاتها. تؤكد الدراسة أن العربية تمتلك قدرة ذاتية على التكيف، لكنها تحتاج بكل وضوح إلى أدوات داعمة في بيئة إعلامية تتغير بسرعة غير مسبوقة.
من جهة أخرى، يورد تقرير الجزيرة نت بتاريخ 14 ماي 2025 بعنوان « اللغة العربية والذكاء الاصطناعي، معركة للبقاء في المشهد الرقمي العالمي » تصريحا بالغ الأهمية للخبير اللغوي أيمن شاهين من مجمع اللغة العربية بالقاهرة، يقول فيه:
« الذكاء الاصطناعي لن ينتظر أحدا، ومن لا يتقنه سيتجاوزه الزمن.» جملة تقف عندها اللغة العربية وقفة جادة. فالمسألة لم تعد مسألة كتابة صحيحة أو خاطئة، بل مسألة وجود رقمي. فإما أن تكون العربية قابلة للتعاطي مع الخوارزميات ومحركات البحث والنماذج اللغوية، وإما أن تقصى تلقائيا في عالم تقوم فيه اللغات بناء على سعتها الرقمية، لا على تاريخها ولا مكانتها الوجدانية.
ولهذا بدأ مجمع اللغة العربية بالقاهرة وفق التقرير نفسه في رقمنة ملايين الكلمات والمفردات، وإتاحتها كمادة لغوية تغذي المنصات الذكية. خطوة تشبه في بعدها الرمزي، إعادة بث الحياة في ذاكرة اللغة. إنها ليست محاولة تجميلية، بل مشروع بقاء. لأن الحرس الجديد للغة لن يكون فقط الشاعر والخطيب والكاتب، بل أيضا المهندس والمبرمج ومصمم الخوارزميات.
وفي منظور آخر، يقدم الباحث صالح غيلوس في مقاله المنشور بالعربية نت « اللغة العربية والتنمية الرقمية » قراءة دقيقة لمشهد العربية في الفضاء الإلكتروني، يرى غيلوس أن إشكالية العربية ليست قلة عدد الناطقين، ولا محدودية الإنتاج العلمي، بل بطء المؤسّسات في تحويل العربية إلى منتج رقمي حقيقي، يشير إلى أن عددا ضخما من المحتوى العربي على الإنترنت مشتت، غير مؤطر، وغير مستثمر علميا. وبذلك تبدو العربية لغة حاضرة من الناحية السكانية، لكنها غائبة رقميا إذا ما قورنت بلغات أقل انتشارا لكنها أكثر تنظيما.
وسط هذه الآراء والتحليلات، يبرز سؤال أوسع: هل تراجع العربية ناتج عن ضغط التكنولوجيا وحده؟ أم عن تغير سلوك الكاتب العربي نفسه؟
ذلك أن الصحفي وصانع المحتوى أصبح يكتب وهو يلهث خلف الخوارزميات؛ يختصر، يوجز، يبتعد عن الفصحى لأنها كما يظن لا تحقق التفاعل المطلوب. غير أن هذا الظن يكذبه الواقع حين نلتفت إلى المحتوى الذي حقق انتشارا واسعا رغم فصاحته العالية، المشكلة ليست في العربية، بل في ما يفترض عنها خطأ.
إن جمال العربية ليس في تعقيدها، بل في مرونتها وقدرتها على أن تكون رشيقة ومكثفة ونافذة في الوقت نفسه. ما تحتاجه هو كاتب مُدرب، وصحفي يدرك أن الجملة العربية يمكنها أن تكون أنيقة ومباشرة دون أن تفقد طابعها الفني. إن التوازن بين الدقة والجمال ليس مهمة مستحيلة، بل فن يمكن اكتسابه، وهو الدور الذي يجب أن تعود مؤسسات الإعلام العربية للقيام به.
فاللغة لا يحرسها الحجر ولا الأرشيف؛ يحرسها الاستخدام الواعي، يحرسها الصحفي الذي لا يسمي الاستسهال تحديثا، ولا يساوي بين الكتابة الرشيقة والكتابة المبتسرة، يحرسها الباحث الذي لا يعتبر التكنولوجيا عدوا، بل أداة يمكن تطويعها. ويحرسها المبرمج الذي يدرب خوارزمية على نص عربي صحيح، فيصبح بذلك جنديا لغويا دون أن يحمل قلما.
وإذا كان العصر الرقمي قد هز يقينيات كثيرة، فإنه قدم أيضا فرصة لإحياء العربية لا تهديدها، فالمحتوى المرقمن، حين يكون مضبوطا وواضحا، قادر على أن يضمن للعربية امتدادا لا حدود له، لم يعد القارئ اليوم في مدينة واحدة؛ أصبح في العالم كله، ولم تعد العربية محصورة في مكتبات الورق؛ بل أصبحت قابلة للأرشفة والبحث والتوليد والتحليل.
إن السؤال الذي بدأنا به، من يحرس جمال العربية؟ لم يعد سؤالا نظريا، بل إنه سؤال مصيري، والحارس الحقيقي اليوم ليس فردا واحدا ولا مؤسسة واحدة، إنه شبكة كاملة من الوعي الجماعي: باحثون، كتاب، مدققون، خبراء لغة، مطورو ذكاء اصطناعي، وقراء يحملون حسا لغويا يحمي الكلمة كما يحمي الهواء الذي نتنفسه.
العربية ليست في خطر لأنها ضعيفة، بل لأنها جميلة، و الجمال يحتاج دائما إلى من يحرسه.
وإذا كان لكل زمن حراسه، فإن حراس العربية اليوم هم الذين يدركون أن المستقبل لن يكون إلا لمن يكتبون بوعي، ويفكرون بعمق، وينظرون إلى اللغة لا كتراث جامد، بل كمستقبل حي ينبض بكل الإمكانات.

