المؤلف : بتران ايبرجي
مدير المعهد العالي للدراسات في العلوم الاجتماعية ومؤلف كتاب “مسيحيو الشرق” منشورات (Payot)، 2013
تعريب: د. حسن الطالب، أستاذ الترجمة -كلية الآداب-جامعة بن زهر أغادير-المغرب
المصدر: مجلة العلوم الإنسانية -التاريخ
(سلسلة الملفات الكبرى)
العدد 5 – ديسمبر /يناير / فبراير 2017 صفحات: 44-45-46
نص المقال :
استُعمِلت عبارة “مسيحيو الشرق” للدلالة على مسيحيي الشرق الأوسط، وهي مرتبطة بصورة نمطية لما يسمى “حماية مسيحيي الشرق” أو (الذميين في الماضي) ولها تاريخ عندما ظهرت في سياق المذبحة التي تعرض لها المسيحيون في جبل لبنان بدمشق في عام 1860، واستدعت حينها تضامنا إنسانيا واسعا غير مسبوق، بل وتدخلا عسكريا فرنسيا. ولا تزال العبارة تحمل في دلالتها مأساة الأقليات المسيحية، موهمة أنها تحيل على نوع من التجانس بينها، ومصيرا مشتركا يتقاسمه جميع المسيحيين في المنطقة. مع أن الأمر للأسف بخلاف ذلك. وإذا كانت وضعية الأقليات المسيحية مرتبطة بهيمنة الإسلام كدين، فلا يجب أخذ هذا المقياس وحده بعين الاعتبار، ذلك أن هذه الأقليات المسيحية تتميز بتنوع انتماءاتها الكنسية، وما تعيشه من أوضاع سياسية وثقافية.
وتعدُّ الوضعية الحالية لهذه الأقليات نتاج تاريخ طويل، على اعتبار أن المسيحية نفسها كدين قد نشأت في الشرق الأوسط نفسه. وينتمي أغلبية مسيحيي المنطقة إلى جماعات منحدرة من مختلف التصدعات والانشقاقات الكنسية التي بدأت مع القرن 4و5 الميلادي. هكذا مثلا نجد أن الأقباط في مصر، شأنهم شأن السريانيين، والمنحدرين من أصول أعالي بلاد الرافدين هم من أتباع الكنيسة الذين رفضوا الطبيعة المزدوجة للمسيح عليه السلام التي أقرها مجمع كليدونية عام 451. وتلك هي أيضا حال الأرمن الذين أسسوا كنيسة مستقلة بدءً من القرن 4.
تقاليد وطقوس مختلفة
من جهة أخرى، نجد الأورتوكس (الروم عند العرب) وهم ينتمون إلى التقليد البيزنطي المرتبط بالتصور المسيحي للمجمع الكليدوني، ويخضعون في تنظيمهم الديني لسلطة البطارقة الأربعة “الإغريق”، المتوارث عن العصور القديمة. وفي الإمبراطورية الفارسية، فيما وراء الحدود الإمبراطورية الرومانية، تأسست في القرن 5 كنيسة قائمة بذاتها تابعة لتصور مسيحي أُدِين في مجمع إفسوس عام 431، مما جعلها تفقد أراض شاسعة وحشودا كبيرة من المنتمين إليها عقب الغزو المغولي للشرق الأوسط (القرنان 13-15) لتتحصَّن بعد ذلك في أعالي بلاد الرافدين. ويُعرف أتباعها اليوم بوصفهم مزيجا من السريان والكلدانيين.
ثم جاءت محاولة المصالحة بين التصور الواحدي للمسيح [وهي عقيدة مسيحية تؤكد أن الابن [المسيح] ليست له إلا طبيعة واحدة ابتلعت صورته الطبيعة كإنسان] للكنيسة الرومانية الرسمية التي قادها الامبراطور هرقل في بداية القرن 7 وانتهت بقطيعة جديدة ليصبح المارونيون في لبنان اليوم ورثتها الشرعيين، علما أنهم يخلصون للبابا وللعقيدة الكلدانية. وتحمل هذه الكنائس كذلك تقاليد كنسية مختلفة مرتبطة بالخصوص بلغة عبادتهم. فالمارونيون والسريانيون – الكلدانيين يشتركون في استعمال السريانية ويتقاسمون التراث القديم لمدرسة الرُّها (Edesse) . وقد تشكّلت الهوية الأرمينية حول لغة بأبجدية خاصة أنتجت أدبا خاصا بالقرن 5. أما الأقباط الذين مالوا أكثر إلى اعتناق التراث الهلنستي القديم فقد تبنوا لغتهم المصرية الخاصة في العبادة عقب القطيعة التي أحدثوها مع التراث البيزنطي. لا بد من الإشارة كذلك إلى وجود جماعات مسيحية تتلكم اللغة العربية وكانت تستقر في أطراف الإمبراطورية الرومانية والفارسية قبل الفتح الإسلامي، لكن بدءا من عصر الفتوح أصبحت اللغة العربية اللغة المشتركة، ومن غريب المفارقات أن يكون الروم أنفسهم أول من تبنى اللغة العربية في أداء شعائرهم، وأدبهم، انطلاقا من القرن التاسع (م). ثم تكيّفت جميع الكنائس مع واقع أن يتحدث أتباعها لغة غير لغتهم المقدسة. وفي نهاية العصر الوسيط ظهرت كذلك جماعات مسيحية تتحدث اللغة التركية والكردية في شبه جزيرة الأناضول.
وقد انتمى هؤلاء المسيحيون الشرقيون في غالبيتهم إلى كنائس لا تتطابق مع دين الدولة، وحرصوا على التكيف بفعل وجود العديد من التراتبيات المتنافسة دينيا وثقافيا في فضاء متعايش واحد. واليوم يتنافس ثلاثة بطارقة المطالبة بشرعية مجمع أنطاكية وهم المارونيون ذوي التقليد السرياني، لكنه كلداني ومرتبط بروما؛ وهناك البطارقة السريان ذوي التقليد السرياني لكنه غير كلداني؛ وأخير البطارقة الإغريق “الروم” المخلصين للتراث البيزنطي المكتوب باللغة العربية.
ثم حدثت ألوان من القطيعة حينما تأسست فرق مسيحية ما بين القرنين 16 و18 في مواجهة فرق أرثودوكسية في كل الكنائس باستثناء الكنيسة المارونية التي ارتبطت ارتباطا كليا بروما. وفي نفس الوقت تأسست جماعات لاتينية طالما تم تسييرها من خلال مبشر كنسي أوروبي، وأخيرا في القرن 19 سنشهد انتعاشة كبيرة في انتشار البروتستانية التي فسحت المجال إلى تسميات مختلفة لمجموعات بروتستانية في المنطقة.
دستور للمسيحيين
لطالما أدى التنافس بين الجماعات الدينية إلى إضفاء صبغة معينة على تاريخ المسيحيين الشرقيين وثقافاتهم ناهيك عما نسجوه بينهم من ضروب التفاعل والاحتكاك. فمنذ سنوات الستينات توطَّد الحوار بين الكنائس وتم التوصل إلى توافقات دينية بدل ما كان سائدا بينها في الماضي من خصومات وعداءات متوارث منذ عهود قديمة. لكن لا يزال الطريق طويلا أمام التوافق لانعدام رؤية واحدة بخصوص السيد المسيح، ولاسيما في مختلف الشعائر المرتبطة بمراسيم الزواج بين الأقباط أنفسهم في مصر مثلا. والاختلاف لا يزال قائما أيضا في طرق العبادة وتوحيد الكنائس لا يزال عفويا، مما يعبر عنه اختلاف أماكن العبادة وشروطها. كما أن ظهور طقوس جديدة أو الرغبة في القطع مع شعائر معينة تعود إلى عهود بائدة هو السمة الجديدة للتدين المسيحي الحديث في المشرق.
وانطلاقا من القرن 19 شرعت دول المنطقة في إلغاء مرجعية أهل الذمة وأدرجت حرية العبادة والمساواة إزاء القانون في مؤسساتها. ومع ذلك برزت الرقابة الإسلامية في مختلف الدساتير، باستثناء الدستور اللبناني. أما في مصر ومنذ الرئيس أنور السادات فقد تم إعلان الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع مع التأكيد أن دستور عام 2014 بعد ثورة الربيع العربي في مصر لم يتراجع حول هذه النقطة.
وينتهج الدستور المتعلق بالأحوال الشخصية كالزواج وكفالة الأطفال والختان…إلخ في معظم دول المشرق نهج الأغلبية السنية. ولا يخضع القانون المدني عند تطبيقه لرؤية موحدة، ويتمتع المسيحيون بدستورهم الخاص، بل وبقانونهم الخاص فيما يتعلق بالمسائل أعلاه. وهذا النظام يتيح للمؤسسات المسيحية فرض نوع من الهيمنة على حرية الأفراد وسلوكياتهم، وإن كان يساهم في تكتلهم ووحدتهم. غير أنه من جهة أخرى يحول دون قيام تعددية حقيقية قائمة على الحرية الفردية. ولا تزال معظم دول المشرق العربي ترفض “حرية المعتقد” الذي يسمح للأفراد، بمن فيهم المسلمون، باختيار معتقدهم بكل حرية والانفصال عما تعتقده جماعته أو تؤمن به.
لقد أسهم المسيحيون إسهاما كبيرا في محاربة الاستعمار والاعتراف بسيادة معظم دول المشرق العربي على بلدانها وأحقيتها في التحرر والاستقلال ولم يكونوا، على الأقل، عرضة لاتهامهم بالتواطؤ مع القوى العظمى الأجنبية التي فرضت أنواعا من الحماية على الدول المُستَعمَرة، ولم يتسببوا في إحداث شروخ وانقسامات داخل بلدانهم. وخلال القرن 20 طُرحت على الدوام مسألة مكانة الإسلام في تعريف مختلف الأمم الشرقية، وقد وقف المسيحيون دوما مع الرؤى العلمانية التي تدافع على مفهوم المواطنة على أسس غير دينية. لكننا نجد أن الأنظمة العلمانية نفسها لعبد الناصر في مصر أو لحزب البعث في سوريا، والعراق قد أسهمت في هيمنة الإسلام ونشره في المجتمع والتضييق على المسيحية والمسيحيين، مدعومة من دول البيترودولار مما أدى إلى هجرة أعداد كبيرة من المسيحيين خارج المنطقة.
واليوم، إذا ما استثنينا طائفة الأقباط في مصر (4,12 قبطي) تشتمل كل الكنائس المشرقية على أعداد متزايدة من المسيحيين يقطنون في بلاد الشتات بدل أوطانهم الأصلية، ومستقبل معظمهم اليوم ترتسم ملامحه في أماكن أخرى كالسويد وأستراليا وكندا.
تعليقات الزوار ( 0 )