نظمت الجمعية المغربية للباحثين في الرحلة بتنسيق مع جمعية رباط الفتح بالرباط ندوة علمية تدارست رحلات الأستاذين عبد الله الجرّاري وعباس الجرّاري، وذلك بعد زوال يوم الجمعة 13 دجنبر 2024، تميزت بحضور زوجة الراحل عباس الجراري ومجموعة من أصدقائه ومهتمين من مدينة الرباط ومن خارجها.
في الجلسة الافتتاحية لهذه الندوة عبر رئيس الجمعية المغربية للباحثين في الرحلة عن سعادة الجمعية بالمشارَكة في تنظيم هذه الندوة، المعنونة بـ “الرحلات الجرارية من الوالد إلى الولد”؛ وترجع هذه “السعادة” إلى اعتبارين اثنين: أولهما: استجابة لرغبة كانت لدى أستاذنا الراحل عباس الجراري الذي تم التواصل معه وأبدى فرحه بمقترح الندوة ووتم الاتفاق على تنظيمها في شهر مارس 2024، لكن موته المفاجئ دفعَ إلى تأجيلها إلى وقت لاحق ومناسب، إلى أن توفرت الظروف المناسبة وهو ما حصل اليوم؛ ثانيهما: وعي الجمعية بأهمية المنجز الرّحلي للأستاذين عبد الله الجراري وعباس الجراري الذي قارب عشرة نصوص رحلية تنوّعت أهدافها ووجهاتها داخل المغرب وخارجه، وتنوعت أشكال كتابتها، والذي يقتضي مزيدا من البحث مع تثمين ما أنجز حوله من دراسات.

ومن جهته ثمّن نائب رئيس جمعية رباط الفتح الأستاذ مصطفى الجوهري الندوة وأظهر قيمتها في كونها تحتفي بعلمين بارزين في الثقافة المغربية وهما الأستاذان عبد الله الجراري وعباس الجراري؛ الأول كان كثير الأسفار بحكم طبيعة المهام التي اضطلع بها داخل المغرب وخارجه، وكان مغرما بالتدوين والتوثيق وهو الأمر الذي سمح له بأن يترك لنا مجموعة من الرحلات تمت في عهد الحماية نشر منها ثمانية، أما الثاني فقد ارتبطت رحلاته بعهد الاستقلال، نشرت منها رحلتان وهما ثلاثون يوما في الولايات المتحدة الأمريكية، ونسيم البوسفور، كانتا في مهام علمية، وتختزلان مشاهدات مهمة، ولها ثلاث رحلات لم تنشر بعد. وأكد في نهاية كلمته أن الرحلات الجرارية سفر في الذات والمعرفة.
في الجلسة العلمية الأولى التي ترأس أشغالها الأستاذ مصطفى الجوهري، قدم الأستاذ فريد امعضشو قراءة في رحلة مغربية داخلية، تنتمي إلى عهد الحماية، قام بها، ودوّنها المرحوم عبد الله الجراري، وكانت وجهتها مدينة الحمراء عام 1943، وهي “عشرة أيام في مراكش” وقد صدرت بتحقيق بنجلالي. وركز فيها على رصد خصائص الكتابة وسماتها فيه، لاسيما وأن النص المدروس ينطوي على كثير مما يميزه؛ من مثل التداخل الأجناسي، والبعد الحجاجي، وتوظيف أسلوب المقارنة، والإكثار من الاقتباسات بصيغ مختلفة، والتوسل بلغة تقع بين لغة النثر الفني واللغة التقريرية، فضلا عن إثارة الرحالة فيها عددا مهما من المواضيع والقضايا، التي تعطي القارئَ صورةً عن تاريخ المغرب وحاضره عهدئذ.. وذلك كله يجعل رحلة الجراري هذه جديرة بالاهتمام والمدارسة في إطار أبحاث أكاديمية بالدرجة الأولى.
وفي مداخلة بعنوان “رحلة عبد الله الجراري إلى فاس: رحلة في التاريخ و الذاكرة ( 1354ه-1953م)” أكدت فيها الأستاذة كوثر أبو العيد أن كتاب “نزهة الاقتباس من خمسة أيام في فاس” للأستاذ الرحالة عبد الله الجراري ينتمي إلى جنس الرحلة المغربية الداخلية. هي رحلة قام به هذا الرحالة إلى مدينة فاس، سنة 1935م في وقت عصيب من تاريخ المغرب. كانت فيه إدارة الحماية تمنع السفر وتراقب التجمعات في محاولة منها لطمس معالم المغرب التاريخية والحضارية بشكل عام. وأن رحلة ” نزهة الاقتباس”، هي سفر في عبق التاريخ والحضارة لمدينة فاس العريقة، غاص عبرها الأستاذ الجراري في أزقة المدينة.
وتناول الأستاذ محمد أعزيز في ورقته الموسومة ب “الرحلة الليبية لعبد الله الجراري: دراسة في البنية والخطاب” انطلق فيها من كون النص مجالا لتفاعل الذات بمحولاتها النفسية والاجتماعية والثقافية مع العالم الذي تتحرك فيه وتشاهد وتكتشف معطياته بكل خصوصياتها الاجتماعية والثقافية والسياسية، وكيف يتم التعبير عن ذلك بانفعالات تتراوح بين الابتهاج والامتعاض، وهو ما تحقق في الرحلة الليبية لعبد الله الجراري. وأكد أن هذه الرحلة تتميز بتعدد تقنيات كتابتها، وتعدد خطاباتها (الديني، الوطني، القومي…).
في الجلسة العلمية الثانية التي ترأسها الأستاذ إبراهيم أزوغ بين الأستاذ طارق الهامل أن الرحلة السطاتية وثيقة تاريخية وأدبية متميزة تؤرخ لرحلة علمية قام بها عبد الله الجراري بين عامي 1938 و1939 إلى مدينة سطات في قلب منطقة الشاوية، كما تميزت هذه الرحلة بتعدد أهدافها المعرفية والثقافية، التي تبلورت حول ثلاثة محاور رئيسية: استكشاف القلعة السطاتية بما تحمله من رمزية تاريخية، اللقاء بالعالم أحمد سكيرج الذي جمعته بالجراري علاقة علمية وروحية وثيقة، والتزود من معين العلم والمعرفة. وقد تجلت هذه الأبعاد بوضوح في فصول الرحلة البالغ عددها اثنين وعشرين، حيث تناولت موضوعات متنوعة شملت القضايا التاريخية والفقهية والعقائدية واللغوية، إلى جانب استلهام جماليات الشعر والأدب، مع إيلاء اهتمام خاص لشخصية السكيرج وإسهاماته العلمية. وأكد اعتمد الجراري في تأليف هذه الرحلة على أسلوب يجمع بين الدقة العلمية والإبداع الأدبي، مستندًا إلى منهجية توثيقية دقيقة في رصد المجالس العلمية والنقاشات الفكرية. وقد أصبحت الرحلة مرجعا مهما للباحثين والمهتمين لفهم الحياة العلمية والثقافية في المغرب خلال تلك الفترة، خاصة في توثيق العلاقة الفكرية المتميزة بين الجراري وسكيرج.
أما الأستاذ ناصر لديم فقد اعتبر جولة في وجدة لعبد الله الجراري أول رحلة مغربية وعربية تدون عن مدينة وجدة، نقل فيها الرحالة عبد الله الجراري بعيون المؤرخ والفقيه مجموعة من الخصائص التي ميزت المدينة في مرحلة الاستعمار، وخاصة على مستوى الدينامية العلمية، فلم يقف عند اقتفاء أثر البعد الديني والعلمي، وإنما تجاوز ذلك نحو رصد التمثلات الثقافية للمدينة من خلال العادات واللباس التقليدي. فهذا النّص الرحلي على صغر حجمه، إلا أنه غني معرفيا، إذ يعتبر بمثابة وثيقة تاريخية تعكس مجموعة من الأبعاد التي طبعت المدينة تاريخيا وسوسيوثقافيا، فكان هذا النص جولة ثقافية تاريخية بين ثنايا المدينة، تسلط الضوء على الوضعية العلمية والدينية في المدينة إلى جانب الظروف الاقتصادية والاجتماعية، مع وقفة على أخلاق أهل وجدة، حيث اعتبرهم عبد الله الجراري مجتمعا يألفون ويؤلفون.
وقدم الأستاذ عبد الإله الغزاوي ورقة عن “رحلة ثلاثون يوما في الولايات المتحدة الأمريكية” للأستاذ عباس الجراري، أبرز في البداية مناسبتها وظروفها ومدتها والأماكن والمعالم العمرانية والحضارية التي غطتها (الجامعات، المتاحف، المكتبات…) وكيفية تأليفها والمتمثل في الجمع بين التسجيل والتوثيق والوصف، وأنها اتخذت قالب اليوميات انسجاما مع عنوانها، كما تضمنت رسائل وبطائق إلى الأهل بالمغرب. وأشار إلى أن هذا النص الرحلي ناقش قضايا سياسية وثقافية واجتماعية وتربوية تخص المجتمع الأمريكي والمجتمع المغربي والأمة العربية.
وفي الأخير تناول الأستاذ يوسف الزيات نص “نسيم البوسفور” عبر رصد تجربة السفر ومستوياتها الذاتية والعلائقية من خلال مستويين الأول يتعلق بالتجربة العاطفية والوجدانية لصاحب النص والثاني يخص تمثله وموقفه كمغربي من الواقع التركي نهاية مرحلة الستينيات بين رصده للإرث العثماني وإبرازه وحكمه على النظام السياسي والفكري الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك مؤسس تركيا المعاصرة.

تعليقات الزوار ( 0 )