✍️ياسيــن كحلـي مستشار قانوني وباحث في العلوم القانونية
في إطار الدينامية التشريعية التي يعرفها النظام القانوني المغربي، والتي تروم الارتقاء بأداء مؤسسات العدالة وتحديث بنياتها، صدر القانون رقم 46.21 المتعلق بتنظيم مهنة المفوضين القضائيين، واضعا بذلك حدا لمرحلة قانونية سابقة امتدت لأكثر من عقدين خضعت فيها المهنة لأحكام القانون رقم 81.03. وإذا كان هذا الأخير قد شكل في حينه مرجعا تنظيميا مهنيا هاما، فإن تحولات العدالة الحديثة وما أفرزته من إكراهات وتحديات مهنية ومجتمعية، اقتضت إعادة النظر في البنية القانونية لمهنة المفوض القضائي، قصد عقلنتها وتأهيلها بما ينسجم مع مبادئ الحكامة وجودة الأداء القضائي.
وقد تم إصدار هذا القانون الجديد بموجب الظهير الشريف رقم 1.25.49 الصادر بتاريخ 6 يونيو 2025، ونشر في الجريدة الرسمية عدد 7412 بتاريخ 12 يونيو 2025، على أن يدخل حيز التنفيذ ابتداء من 12 شتنبر 2025، أي بعد مرور ثلاثة أشهر من تاريخ نشره، وفقا لما تنص عليه المادة 170 منه. وخلال هذه الفترة الانتقالية، يستمر العمل بأحكام القانون السابق، ما لم تتعارض مع أحكام النص الجديد، في تجسيد واضح لمبدأ الأمن القانوني وضمان استقرار المراكز القانونية للمشتغلين بالمهنة.
أولا : تشديد شروط ولوج المهنة
من أهم مستجدات هذا الإطار القانوني، إعادة تنظيم شروط الولوج إلى مهنة المفوضين القضائيين، إذ لم يعد بالإمكان الترشيح إلا لحاملي شهادة الإجازة في العلوم القانونية أو الشريعة أو ما يعادلها، وهو ما يعكس رغبة المشرع في حصر مزاولة المهنة في فئة متخصصة تمتلك الحد الأدنى من التكوين القانوني الأكاديمي. كما تم إرساء شرط النزاهة الجنائية من خلال إقصاء كل من صدر في حقه حكم جنائي يتعلق بجرائم الأموال أو التزوير، حتى ولو تم رد الاعتبار إليه، مما يعكس توجها صارما نحو تخليق المهنة وتعزيز الثقة العامة فيها. وقد تم أيضا حرمان من صدر في حقه قرار تأديبي بالعزل أو التشطيب من ولوج المهنة، انسجاما مع متطلبات الاستقامة الأخلاقية والمهنية.
ثانيــا : إصلاح نظام التكوين والتمرين
على مستوى التأهيل المهني، جاء القانون الجديد بمقاربة مغايرة لما كان معمولا به سابقا، حيث نص على ضرورة الخضوع لتمرين يمتد لسنة كاملة، يقضى نصفها في مؤسسة تكوين معتمدة، والنصف الآخر داخل مكتب مفوض قضائي. كما اشترط القانون اجتياز امتحان نهاية التمرين كشرط أساسي للترسيم، وهو ما يكرس الانتقال من منطق التوظيف المباشر إلى منطق التأهيل المرحلي المرتكز على المعرفة النظرية والممارسة الميدانية، ضمانا لفعالية المهني وجودة أدائه في المستقبل.
ومن جانب آخر، أعاد القانون النظر في نظام الإعفاء من المباراة، إذ حافظ على إعفاء بعض الفئات منها – مثل موظفي كتابة الضبط والكتاب المحلفين – لكنه أوجب عليهم التمرن واجتياز الامتحان النهائي، بخلاف ما كان عليه الأمر في التنظيم السابق، وهو توجه يعكس منطقا يقوم على معادلة الإنصاف والتأهيل المتساوي.
ثالثــا : تنظيم دقيق لموانع التنافي والمشاركة المهنية
في باب التنافي، سعى المشرع إلى تحقيق استقلالية المفوض القضائي وتفرغه الكامل لمهامه، عبر التوسع في لائحة الأنشطة التي يمنع الجمع بينها وبين ممارسة المهنة، حيث لم تقتصر الموانع على الوظائف العمومية والأنشطة التجارية، بل شملت مهام الخبرة القضائية والتسيير الإداري في الشركات الخاصة، إضافة إلى كل عمل مأجور غير مرخص به صراحة. هذا التضييق المقنن على الأعمال الموازية، يقصد به حماية المهنة من تضارب المصالح وصيانة كرامة المفوض القضائي واستقلاليته.
أما في ما يتعلق بالمشاركة، فقد حدد القانون الجديد عدد المفوضين المسموح لهم بالمشاركة في إطار واحد في أربعة مشاركين كحد أقصى، مع إرساء نظام تعاقدي منظم يحدد الحقوق والواجبات وآليات التصفية في حال إنهاء الشراكة، وهو ما يعد تقدما تشريعيا هاما مقارنة بالتنظيم السابق، الذي اكتفى بإقرار مبدأ المشاركة دون ضبط إجرائي دقيق.
رابعــا : تأهيل جديد للكتاب المحلفين وتوسيع رقابة المفوض القضائي
أحد التحولات العميقة التي أحدثها هذا التنظيم هو رفع المستوى التأهيلي للكتاب المحلفين، حيث لم يعد مقبولا الاكتفاء بشهادة الباكالوريا، بل أصبح الحصول على شهادة الإجازة شرطا لازما، وهو ما يعكس تطلع المشرع إلى تعزيز المستوى المهني داخل المكتب القضائي نفسه. كما تم التنصيص على المسؤولية المباشرة للمفوض القضائي عن أخطاء كتابه المحلفين، تجسيدا لمبدأ الرقابة الذاتية والحرص على جودة العمل اليومي.
خامسا : توسيع صلاحيات الهيئة الوطنية وتحديث آليات التأديب
على مستوى الإطار التأديبي، سعى القانون الجديد إلى ضبط العلاقة بين المجالس الجهوية والهيئة الوطنية، وتحديد درجات العقوبات بشكل تفصيلي، بما يشمل الإنذار، التوبيخ، الإيقاف المؤقت، ثم العزل. هذا النظام يعكس تصورا منفتحا على مبدأ التدرج في العقوبة وضمانات المحاكمة التأديبية.
كما وسع القانون صلاحيات الهيئة الوطنية، حيث أصبحت معنية بمجالات متعددة، من قبيل إعداد مدونة سلوك مهني؛ إحداث مشاريع اجتماعية لفائدة المهنيين؛ وتتبع مدى التزام المفوضين بواجب التأمين المهني؛ إلى جانب تنظيم انتخابات مسؤولي الهيئة وفق معايير أكثر شفافية ومأسسة.
يمكن القول، في ضوء التحليل السابق، إن القانون رقم 46.21 يمثل مرحلة جديدة في مسار إصلاح مهنة المفوضين القضائيين بالمغرب، من خلال مقاربة تقوم على إعادة الاعتبار لهذه الهيئة وجعلها أكثر مهنية واستقلالية وفاعلية في محيطها القضائي والاجتماعي.
فقد تجاوز المشرع منطق التنظيم الشكلي إلى منطق التأهيل المؤسساتي والمهني الشامل، بما يضمن لمهنة المفوض القضائي مسايرة التحولات الكبرى التي يعرفها القضاء المغربي، من جهة، ويعزز من موقعه كشريك استراتيجي في تكريس الأمن القانوني، من جهة أخرى.
وعليه؛ فإن نجاح هذا الإطار التنظيمي سيظل رهينا بمدى تفعيل مقتضياته على أرض الواقع، ومواكبة تنزيله بإرادة سياسية ومهنية واضحة، تتجاوز النصوص إلى الممارسة، وتستحضر دوما أن العدالة ليست فقط سلطة، بل هي منظومة ثقة مجتمعية ومسؤولية تشاركية.
تعليقات الزوار ( 0 )