✍️ ياسيــن كحلـي : مستشار قانوني وباحث في العلوم القانونية

أصدر الديوان الملكي بتاريخ 23 دجنبر 2024، بمدينة الدار البيضاء، بلاغا يسلط الضوء على موضوع مراجعة مدونة الأسرة، وهو ملف يكتسي أهمية بالغة بالنظر إلى دوره المحوري في ضمان العدل والمساواة داخل الأسرة المغربية. حيث يعكس هذا البلاغ حرص جلالة الملك محمد السادس، بصفته أمير المؤمنين، على الجمع بين المرجعية الدينية والتشريعات الحديثة لتحقيق إصلاح شامل ومتوازن يستجيب لتطورات المجتمع المغربي.

أولا : ترأس جلالة الملك لجلسة عمل حول مراجعة مدونة الأسرة
شهد البلاغ إعلانا عن ترؤس جلالة الملك محمد السادس جلسة عمل خصصت لموضوع مراجعة مدونة الأسرة، حيث يأتي هذا الحدث بعد انتهاء مهام الهيئة المكلفة بمراجعة المدونة، التي رفعت تقريرا شاملا إلى جلالة الملك متضمنا أكثر من مائة مقترح تعديل. وأكد البلاغ أن هذه التعديلات تهدف إلى تحقيق توازن بين حماية حقوق جميع أفراد الأسرة وبين تعزيز العدل والمساواة.

ثانيا : دور المجلس العلمي الأعلى في ضمان المرجعية الشرعية
باعتباره المرجع الأعلى في القضايا الدينية، أحال جلالة الملك المقترحات ذات الطابع الديني على المجلس العلمي الأعلى لإصدار رأيه الشرعي. وقد بيّن البلاغ أن المجلس العلمي ساهم بدور محوري في تقديم الاجتهادات الشرعية المناسبة، ما يعكس التزام جلالة الملك بضابط “عدم تحريم حلال ولا تحليل حرام” كمرجعية أساسية في التعديلات المقترحة. وتمت مراجعة بعض القضايا استنادا إلى الرأي الشرعي، حيث قام جلالة الملك بالتحكيمات الضرورية لتحديد الخيارات المنسجمة مع القيم الشرعية والغايات المحددة في الرسالة الملكية الموجهة إلى رئيس الحكومة.

ثالثا : مقاربات متعددة لضمان الإصلاح الشامل
استعرض البلاغ مقاربات متعددة اعتمدتها الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة، حيث قدم وزير العدل عرضا مفصلا حول طريقة ومنهج عمل الهيئة، بما في ذلك جلسات الاستماع والإنصات التي جمعت مختلف الفاعلين المجتمعيين. كما أشار إلى الغايات المرجوة من التعديلات، والتي تتلخص في تعزيز الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية للأسرة المغربية.
من جانبه، قدم وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية خلاصات الرأي الشرعي للمجلس العلمي الأعلى، مؤكدا على أهمية الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية بما يتماشى مع روح العصر. كما دعا جلالة الملك المجلس العلمي الأعلى إلى مواصلة التفكير وإحداث إطار مناسب ضمن هيكلته لتعميق البحث في الإشكالات الفقهية المتعلقة بالأسرة.

رابعا : المرجعيات والمرتكزات المؤطرة للمبادرة التشريعية
أكد البلاغ الملكي على ضرورة استحضار مرجعيات أساسية تؤطر مراجعة مدونة الأسرة، وفي مقدمتها مبادئ العدل والمساواة والتضامن والانسجام النابعة من الدين الإسلامي، إضافة إلى القيم الكونية المنبثقة من الاتفاقيات الدولية. كما شدد على أهمية ضمان حماية حقوق جميع أفراد الأسرة دون الانتصار لفئة على حساب أخرى، مع التأكيد على أن التعديلات تهدف إلى تحقيق تكاملية في مضامين المراجعة.

خامسا : نحو صياغة تشريعية واضحة وشفافة
في إطار تعزيز الوضوح والشفافية، دعا جلالة الملك إلى بلورة التعديلات في قواعد قانونية واضحة ومفهومة، بهدف تجاوز تضارب القراءات القضائية وحالات تنازع التأويل. كما تم تكليف الحكومة في شخص رئيسها، ببلورة وصياغة التعديلات في إطار مبادرة تشريعية تلتزم وتتقيد بالأحكام الدستورية.

سادسا : العناية بالمداخل المدعمة للإصلاح
لم تقتصر المراجعة على الجوانب القانونية فقط، بل لفت جلالة الملك الانتباه إلى ضرورة العناية بالمداخل الأخرى التي تعزز مراجعة مدونة الأسرة. وشمل ذلك تدعيم تجربة قضاء الأسرة، ومراجعة النصوص التشريعية والتنظيمية ذات الصلة في ضوء الأحكام الدستورية الجديدة، وإعداد برامج توعوية تمكن المواطنين من فهم حقوقهم وواجباتهم.

سابعا : رؤية شمولية لإصلاح مدونة الأسرة
يشكل هذا البلاغ الملكي خارطة طريق متكاملة لمراجعة مدونة الأسرة، حيث يوازن بين المرجعية الدينية والقيم الكونية، ويجمع بين الاجتهاد الشرعي والمقاربات القانونية الحديثة. وبتأكيده على مبادئ العدل والمساواة والتضامن، يضع جلالة الملك الأسرة المغربية في صلب هذا الإصلاح المجتمعي والحقوقي والتشريعي، مع مراعاة التطورات المجتمعية وضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية لجميع أفرادها.

وختاما؛ يمكن القول بعد مرور عشرين سنة على تطبيق مدونة الأسرة، يعكس هذا الإصلاح المرتقب إرادة ملكية قوية لضمان العدالة والمساواة داخل الأسرة المغربية، ومن خلال إشراك مختلف الفاعلين واعتماد مقاربة تشاركية، تسير المملكة بخطى ثابتة نحو تعزيز القيم النبيلة للأسرة المغربية، في إطار من الانفتاح والإصلاح الشامل.