الإثنين 13 أكتوبر 2025 22:09

الخطاب الملكي أمام البرلمان.. نداء الضمير الوطني ومسؤولية العمل السياسي

ألقى جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، خطابًا ساميًا بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية للبرلمان، اليوم الجمعة 10 أكتوبر 2025، في لحظة دقيقة من مسار الدولة المغربية، حيث تتقاطع المطالب الاجتماعية المتصاعدة مع الحاجة إلى إصلاح حكومي عميق، وتفعيل مبدأ المساءلة في أعلى مستوياته. الخطاب جاء مؤطرًا برؤية دستورية رصينة، حددت بوضوح حدود الأدوار وفصلت بين سلطة التوجيه الملكي وسلطة التنفيذ الحكومي، بما يحافظ على توازن المؤسسات ويحصّن الاستقرار الوطني.

منذ بدايته، رسم الخطاب الملكي خريطة طريق جديدة للمرحلة المقبلة، عنوانها «ثقافة النتائج» و«العدالة المجالية والاجتماعية». إذ ركز جلالته على ضرورة توجيه الاستثمار العمومي نحو المناطق الهشة، وعلى أن النجاعة لم تعد خيارًا إداريًا بل واجبًا وطنيًا. هذه الدعوة ليست تقنية فحسب، بل تحمل مضمونًا سياسيًا ودستوريًا عميقًا، لأنها تربط بين شرعية الفعل العمومي ومردوديته الفعلية في حياة المواطن. فالإصلاح الحقيقي، كما أشار الملك، لا يقاس بالشعارات ولا بالوعود، بل بالمشاريع الملموسة، والنتائج القابلة للتقييم والمحاسبة.

وفي سياق وطني كان يتطلع فيه جزء كبير من الرأي العام إلى قرارات حازمة أو حتى إلى إقالات فورية لبعض الوزراء، جاء الخطاب متزنًا في لغته ومقصده. فالملك، بصفته الضامن الأسمى لاستمرار الدولة، اختار أن يوجّه رسائل استراتيجية بدل قرارات ظرفية، محافظًا بذلك على منطق المؤسسات وعلى روح الدستور التي تمنح لكل جهة صلاحياتها ومسؤولياتها. فالمساءلة، كما يراها جلالته، ليست ردّ فعل غاضبًا بل مسارًا مؤسساتيًا متدرجًا، يتأسس على تقييم الأداء، ويفتح الباب للمحاسبة القانونية بدل التصفية السياسية.

هذا التوجه يؤكد أن المرحلة لم تعد تتحمل منطق الارتجال أو الشعبوية، بل تحتاج إلى تخطيط عقلاني يوازن بين الاستقرار والجرأة في الإصلاح. فالمغرب في سنته الأخيرة من الولاية الحكومية والبرلمانية، وأي هزة سياسية غير محسوبة قد تعيدنا إلى مناخ الانتظار والفراغ. من هنا تأتي حكمة الخطاب: إنزال الإصلاح من منبر التوجيه إلى أرض المؤسسات، وإعطاء الفاعلين السياسيين والبرلمانيين الفرصة الأخيرة لإثبات قدرتهم على تحمل المسؤولية كاملة، تحت سقف الدستور وعيون الرأي العام.

أما في بعدها الدبلوماسي، فقد حملت مضامين الخطاب رسائل واضحة إلى الشركاء الدوليين مفادها أن المغرب مستمر في مسار الإصلاح بثبات، وأن الاستقرار الذي تنعم به المملكة ليس استقرارًا شكليًا، بل قائم على شرعية الإنجاز وتحديث الإدارة وربطها بالنجاعة الاقتصادية. فقد أعاد الخطاب التأكيد على أن التنمية الشاملة هي بوابة المغرب إلى المستقبل، وأن الدولة بمختلف مؤسساتها مدعوة إلى الانخراط في هذا الورش بروح التنافسية والشفافية، انسجامًا مع الرؤية الملكية التي جعلت من العدالة الاجتماعية والمجالية محور المشروع المجتمعي الجديد.

إن القراءة المتأنية لهذا الخطاب تكشف أن جلالة الملك أراد أن يضع الجميع أمام مسؤولياتهم: الحكومة مدعوة لتسريع وتيرة الإصلاح وتقييم سياساتها بجرأة، والبرلمان مطالب بالانتقال من النقاش السياسي العقيم إلى المراقبة الفعالة والتشريع الرصين، بينما يُنتظر من المجتمع المدني والإعلام الوطني أن يتحولا إلى شركاء في التقييم لا مجرد متفرجين أو نقاد من الهامش. إنها دعوة إلى بناء جبهة وطنية داخلية عنوانها العمل والإنجاز، بدل التذمر والتبرير.

كمواطن وناشط مدني وإعلامي أومن بالدولة العادلة والملكية المواطِنة، وأجد في هذا الخطاب الملكي توجيهًا استراتيجياً يحمّلنا جميعًا مسؤولية مضاعفة: مسؤولية الدفاع عن الاستقرار من جهة، ومواصلة فضح الفساد والاختلالات المالية من جهة أخرى، لكن في إطار القانون والمؤسسات. فالمعركة ضد الفساد ليست شعارًا موسميًا، بل معركة وعي وضمير تحتاج إلى أدوات دقيقة، وإلى مواطنين يطالبون بالإصلاح بالمنطق لا بالانفعال، وبالإثبات لا بالاتهام.

إن المغرب اليوم أمام منعطف مفصلي، والكرة باتت في ملعب المؤسسات المنتخبة والمسؤولين العموميين لترجمة التوجيهات الملكية إلى إجراءات ملموسة. فلا مجال بعد اليوم للتهرب أو التبرير، ولا مبرر لتكرار الأعذار القديمة. فحين يتحدث الملك عن «ثقافة النتائج»، فإنه يضعنا جميعًا أمام امتحان الكفاءة والنزاهة. وهنا بالضبط يتجلى جوهر الإصلاح المغربي: ملك يقود برؤية، وشعب يطالب بالمساءلة، ودولة تُبنى على الفعل لا على القول.

تحرير: عزيز أخواض

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

النشرة الإخبارية

اشترك الآن في النشرة البريدية لجريدتنا، لتصلك آخر الأخبار يوميا

حمل تطبيق نشرة

من نحن؟

جريدة رقمية مستقلة، تهدف إلى تقديم محتوى خبري وتحليلي موثوق، يعكس الواقع بموضوعية ويواكب تطورات المجتمع. نلتزم بالشفافية والمهنية في نقل الأحداث، ونسعى لأن نكون منصة إعلامية قريبة من القارئ، تعبّر عن صوته وتلبي اهتماماته.