ياسين خرشوفة ✍️

بجانب وحشيتها البالغة، فإن المحزن بحق في مذبحة دير ياسين أن تلك القرية الوادعة -والقابعة على تل ارتفاعه ثمانمئة متر غربي القدس، على الطريق الموصلة بين القدس ويافا/”تل ابيب”- لم تألُ جهدا في سبيل ماكانت تظن أنه النجاة من الصراع الدائر في فلسطين عام 1948، فاختار أعيانها مهادنة قادة اليشوف – اسم المجتمع اليهودي في فلسطين قبل قيام “دولة اسرائيل”- مع اندلاع الصراع في اواخر عام 1947 .

في العشرين من يناير 1948، التقى اعيان قرية دير ياسين بقادة مستوطنة غيفات شاؤول اليهودية، اتفق الطرفان على الهدنة مع التزام دير ياسين بإبعاد القوات العربية غير النظامية خارجها. وفي حال ظهرت تلك القوات تقوم دير ياسين بالابلاغ عنهم نهاراً عبر تعليق الملابس (قطعتان بيضاء ووسطها قطعة سوداء)، وليلاً عبر اشعال ثلاث ومضات!

التزم أعيان القرية ببنود الاتفاقية بشكل مطلق، وفي أواخر شهر يناير منعوا جماعات مسلحة عربية من استخدام القرية كقاعدة لشن عمليات تجاه القدس، ما تحول الى صراع بين الطرفين انتهى بمقتل أحد القرويين ومغادرة المسلحين القرية، كما منعوا القائد الفلسطيني المعروف عبدالقادر الحسيني من إقامة معسكر له خارج القرية، وبعد أسبوعين من ذلك حاولت جماعة مسلحة شن هجوم على مستوطنة جيفات شاؤول المجاورة، ولما اعترض الأعيان على ذلك، قام المسلحون بذبح أغنام القرية كإجراء عقابي ورحلوا …

وفي منتصف شهر مارس زار وفد من اللجنة العربية القرية عارضا استضافة مجموعة من القوات المسلحة العراقية والسورية لحمايتها، وعلى الفور لاقى الطلب رفضا من زعامات القرية، كررت اللجنة ذات الطلب في بدايات شهر ابريل – اي قبل ايام معدودة فقط من الهجوم المميت على القرية- الا أن رغبة أولئك الوجهاء بالنأي بالنفس كانت اكبر من ان تزعزعها كل تلك المحاولات الحثيثة!

بينما كان قادة اللجنة العربية يسعون لاقناع وجهاء القرية بضرورة إرسال عناصر لتأمينها من هجمات محتملة وذلك لوقوعها في مكان استراتيجي على الطريق الموصلة بين القدس وتل أبيب، كان قادة الهاجانا يضعون اللمسات الاخيرة لتفعيل الخطة دالت على الأرض، تقضي الخطة بالسيطرة التامة على الأراضي المخصصة للدولة اليهودية وفقا لخطة التقسيم، وتأمين كافة طرق المواصلات بين المستوطنات اليهودية، وذلك من خلال اخلاء القرى العربية وطرد سكانها منها وتدميرها بغير رجعة، وقد كان طريق القدس/ تل أبيب أهم تلك المناطق الاستراتيجية التي حرص قادة الهاجانا على تطهيرها!

تطبيقاً للخطة دالت(د)، بدأت العملية نحشون لفتح طريق القدس- تل ابيب في أوائل ابريل، وقد اختار قادة العصابات المسلحة الإرهابية الأرجون وشتيرن قرية دير ياسين لتكون مسرحا لعملية تطهير عرقي مثالية يتردد اصداءها في كامل ربوع فلسطين بحيث تسرع من وتيرة النزوح الفلسطيني، لم يكن اختيار دير ياسين عبثيا، فالقرية المسالمة التي بقيت على علاقة طيبة باليشوف حتى ذلك الحين ستبعث برسالة مفادها ألا مكان لاي فلسطيني في بلاده، حتى وان كان صديقا لليشوف!

في ساعات الصباح الأولى من التاسع من ابريل شنت العصابات الارهابية هجومها على القرية، مدعومةً بفرقة قاذفي القنابل من الهاجانا، وفرقتين مدرعتين من البالماخ، وعلى غير المتوقع واجه الهجوم مقاومة من ابناء القرية أدت لمقتل اربع من المهاجمين، وبعد قتال استمر نهارا كاملا انهارت دفاعات القرية وسقطت بأيدي العصابات الإرهابية التي أعملت قتلا وتنكيلا بسكانها.

في تقريره الصادر يوم العاشر من ابريل، ذكر مردخاي غيشون -منسق جهاز مخابرات الهاغانا في الموقع- ” جرى اقتياد الذكور البالغين في شاحنات في عرض بشوارع المدينة، وبعد العودة قتلوا برصاص الاسلحة الآلية، وقبل وضعهم في الشاحنات اخذ رجال الارغون والهستدروت حليبهم وسرقوا اموالهم، كان السلوك تجاههم همجيا بشكل خاص وشمل الركل والضرب باعقاب البنادق، والبصق والشتم، وقد شارك بعض سكان غيفات شاؤول في النهب والتعذيب”

يضيف غيشون أن “ابن المختار -الذي كان مصدرا مستمرا للمعلومات للهاغانا- أُعدم امام والدته واخواته” ووفقا للمصادر الفلسطينية، فقد راح ضحية المجزرة الرهيبة نحو 254 شهيدا، جلهم من الأطفال والنساء وكبار السن.

ترددت اصداء المذبحة سريعا في سائر ربوع فلسطين، بالإضافة الى خبر استشهاد القائد الفلسطيني عبدالقادر الحسيني في نفس الوقت تقريبا، ما أدى الى اكبر عمليات نزوح فلسطيني على إثر اخبار المذبحة الرهيبة، تبجح قائد عصابة الإرغون الإرهابية مناحيم بيجن ( الذي كان مصنفا حتى لدى البريطانيين وقتها بوصفه ارهابي على راس قائمة المطلوبين للعدالة، والحائز على جائزة نوبل للسلام لاحقا!) بما حققته عصابته من انجاز قائلا ” لقد كانت اكثر فائدة من نصف دستة فرق للقوات الاسرائيلية .. فالذعر الذي سيطر على عرب ارض اسرائيل … ساعدنا وبصفة خاصة في طبريا وفي الاستيلاء على حيفا”

في الهضبة المقابلة لدير ياسين تماما، وعلى مراى ومسمع شواهد القرية المتبقية، تم بناء اشهر متحف للهولوكوست المعروف باسم “ياد فاشيم”، في ذلك المتحف الضخم – الذي خُلد فيه اسماء ضحايا الهولوكوست- تقول ” اسرائيل ” للعالم أن لا ينسوا ضحايا الهولوكوست، بينما في الضفة المقابلة تعمل على طمس معالم المذبحة التي اقترفت بأيدي العصابات الارهابية والهاجانا …