✍️ ياسين خرشوفة

تشير الأنباء الواردة من خريطة الصراع الدولي في يونيو عام 2022 إلى أن إسرائيل تسعى لأن تعوض أوروبا جزءا من حاجاتها للغاز الروسي كي لا ترتهن القارة الأوروبية لموسكو بمثل ارتهانها في الحرب الأوكرانية الدائرة حاليا منذ فبراير الماضي.

كان من المفترض بالطبع أن يكون اسم الغاز المستخرج من مياه المتوسط “غاز فلسطين” لكنه يحمل اليوم مسمى “غاز إسرائيل”.

ويعيدنا هذا الأمر إلى القرن التاسع الميلادي، أي قبل نحو 1200 سنة، حين نجح اليهود الفارون من الإمبراطورية الفارسية والبيزنطية في أن يحكموا شعوبا رعوية أقل مهارة في القوقاز وشكلوا ما يعرف باسم “مملكة الخزر “.

يذهب الجغرافي والمؤرخ الروسي الكبير ليف غوميليوف إلى أنه بحلول القرن التاسع نجح اليهود في امتلاك حصص كبرى من تمويل قوافل التجارة الدولية التي كانت قائمة آنذاك والتي امتدت في خطوط طويلة من الصين إلى الغرب الأوروبي.

كانت التجارة مع الصين في القرنين الثامن والتاسع هي العمل الأكثر ربحا. فقد قامت أسرة تانغ – في محاولة لملء خزينة الدولة التي فرغت بسبب الإنفاق على الجيش الكبير – بالسماح بخروج الحرير من البلاد بعد أن كان سرا محرما.

ولأجل الحرير تحديدا سارت القوافل التي يمولها اليهود إلى الصين. وكان الطريق يمر عبر سهوب الأويغور فيما يعرف باسم التركستان الشرقية، ومن هناك إلى آسيا الوسطى وبحر آرال ومنه إلى نهر الفولغا في وسط البلاد التي نسميها اليوم روسيا، وكانت حينئذ ممالك وثنية تستعد لدخول الإسلام.

نظم اليهود محطات استراحة للقوافل في هذه المنطقة ولا سيما عند مصب نهر الفولغا في بحر قزوين، كان ينتظر المسافرين المتعبين الراحة والطعام الوفير والترفيه.

تمثلت مظاهر الاستمتاع الكبرى للقوافل في أسماك الفولغا الرائعة والفواكه والحليب والنبيذ، وعازفي الموسيقى المهرة والنساء الفاتنات الجميلات.

وهكذا تراكم لدى التجار اليهود، الذين كانوا يديرون اقتصاد منطقة الفولغا ضمن “مملكة الخزر”، الكنوز والحرير والعبيد.

بعد أن تستريح القوافل في محطات الخزر التي يحمكها اليهود كانت القوافل تنطلق إلى أبعد من ذلك لتصل إلى أوروبا الغربية، خاصة في بافاريا وبروفانس، ثم بعد عبورها لجبال البرانس كانت تنهي شوطا طويلا عند السلاطين المسلمين في قرطبة والأندلس.

وقع عبء السياسة الاقتصادية للإمبراطورية الصينية كله على كاهل الفلاحين، فالموظفون الحكوميون كانوا يجمعون الحرير منهم بأقل الأثمان مع فرض مزيد من الضرائب.

ونتيجة لذلك اندلعت في الصين انتفاضة فلاحية كبرى لقيت سحقا من الجيش الإمبراطوري في مطلع القرن العاشر الميلادي.

صحيح أنه فشلت الثورة الشعبية ونجح الجيش الصيني في قتل المتمردين لكن النتيحة أن الأرض لم تجد فلاحين للزراعة ولم تجد أحدا يرعى إنتاج الحرير ولا أشجار التوت. وبهذا انسحبت الصين من التجارة العالمية.

الكارثة التي حلت على طريق قوافل الحرير من الصين إلى إسبانيا أثرت بالطبع على مملكة الخزر.

وقع اليهود في أزمة اقتصادية كبرى بانقطاع تجارة الحرير إثر الحرب الأهلية في الصين، لكنهم سرعان ما بدأوا في التفكير في بديل فتحركوا شمالا نحو الغابات العامرة بحيوانات الفراء الثمين من السمور والدلق وابن عرس.

بل واحترفوا تجارة بيع الأطفال الذين يدخلون في حركة الرقيق إلى عالم الجنوب: بيزنطة والخلافة الإسلامية.

وانطلقت من جديد القوافل التي تحمل الفراء إلى سادات العرب، كما كانت تضم العبيد من الذكور والإناث لحريم الحكام المسلمين.

يمضي ليف غومليوف مؤكدا أن سلاطين وأمراء الخلافة في بغداد كانوا يقدرون العبيد المحاربين “الصقالبة” أكثر من تقديرهم لفصائل المرتزقة من البدو الأحرار. وكل ذلك جاء عن طريق التجار المهرة في “مملكة الخزر” اليهودية.
كان ذلك بمثابة طوق نجاة لمملكة الخزر التي كادت تسقط بسبب توقف الحرير من الصين. لكن وقعت مصيبة أخرى. ففي القرن التاسع بدأت تنهار دولة الخلافة في بغداد.

يرى غوميليوف أن مركز الخلافة أصبح مثل العنكبوت الذي امتص وابتلع خيرات الأمصار الضخمة التابعة له، ولم يقدم لها شيئا في المقابل. فانفصلت أسبانيا، ثم المغرب والجزائر وتونس. وانفصلت مصر ووسط آسيا وشرق إيران.

أخيرا، استقلت منطقة الديلم في جنوب بحر قزوين.
كيف كان انفصال “الديلم” حدثا فارقا قبل ألف سنة في علاقة المسلمين ويهود الخزر والفضاء الجغرافي الذي يعرف اليوم باسم روسيا وأوكرانيا؟

دعونا نجيب في مقال مقبل !