✍️ ياسين خرشوفة 

أوكرانيا حالة مثيرة للاهتمام بالنسبة لنا كعالم ثالث ليس من منظور العلاقات الدولية والصراع الروسي الغربي بالأساس، ولكن من منظور أزمة بناء الأمة في هذا البلد.

أوكرانيا تاريخيا كانت منطقة خاضعة لإحدى الإمبراطوريات الجارة، باستثناء الفترة من منتصف القرن السابع عشر إلى منتصف القرن الثامن عشر الذي نجح فيه القوزاق في تشكيل دولة مستقلة، لكن حتى تلك الدولة عانت من صراع الإمبراطوريات المجاورة لها، الروس والعثمانيين والنمساويين وحتى الألمان والسويديين، وقبلهم بقرون طبعا خاقانية تتر القرم القوية. بعد نهاية دولة القوزاق، أوكرانيا استمرت تابعة لروسيا الإمبراطورية ثم السوفيتية ولحين استقلالها في مطلع التسعينات. ومع استقلالها، احتفظت أوكرانيا بمناطق حصلت عليها عبر السوفييت، مثل القرم والمناطق الغربية التابعة لبولندا قبل غزوها من قبل النازي.

بعد الاستقلال، الدولة الوليدة أصبحت منقسمة جهويا بين الغرب الذي تبنى قومية أوكرانية قائمة على إلغاء الروسية (اللغة الأم ل 30٪ من الأوكرانيين) والاتجاه غربا والعداء للشيوعية لدرجة اعتبار المتعاونين مع النازية في الحرب العالمية الثانية أبطال قوميين للاستقلال الأوكراني، وشرق يتحدث الروسية كلغة أولى وبعض سكانه روس أصلا، وهو موطن الصناعة الموروثة من السوفييت.

هذا الانقسام الجهوي الثقافي ترسخ بفشل اقتصادي ذريع للحقبة ما بعد السوفيتية رغم معدلات النمو المرتفعة التي تحققت بفضل تحرير التجارة، فتراجع بشدة نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بالحقبة السوفيتية، وتدهورت الخدمات لدرجة انخفاض نسبة السكان نحو 10 مليون نسمة خلال العقود الثلاثة، وسقطت الدولة في فساد منظم وأزمة تمثيل سياسي مزمنة.

الروس حاولوا أن يخلقوا حكم سلطوي كفء كعادتهم من خلال رجلهم فيكتور يانوكوفيتش الذي رغم قيام الثورة البرتقالية ضده بعد فوزه بانتخابات مشكوك في نزاهتها عام 2004، وإلغاء الانتخابات، نجح في استعادة شعبيته والفوز بانتخابات 2010. يانوكوفيتش كان حاكم قوي فعلا ومتزن، لكنه كان سلطوي ويسعى لتمكين أبنائه.

في المقابل الغرب (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة) كان همهم استغلال أوكرانيا سياسيا واقتصاديا بدون أي اعتبار لمشكلاتها الخاصة. في البداية بوش الابن ضغط على أوكرانيا للالتحاق بالناتو رغم علمه بأن هذا الأمر سيكون شديد الإزعاج لروسيا وبالتالي سيخلق أزمة سياسية خارجية لأوكرانيا ستكون لها آثار محلية في مثل هذا المجتمع المستقطب، وبعد ذلك دعم الغرب ثورة الميدان في 2014 (كان اسمها أيضا ثورة الكرامة) ضد يانوكوفيتش لرفضه توقيع اتفاق التجارة الحرة مع أوروبا الذي كان يستتبع برنامج إصلاح اقتصادي قاسي وتدمير للصناعة المحلية (في مناطق الشرق) المتقادمة طبعا مقارنة بالمنتجات الأوروبية، في المقابل الروس عرضوا قرض بنفس القيمة وأكثر غير مشروط بأي إصلاحات محددة، علاوة على تخفيضات على أسعار الغاز الروسي التي كانت أوكرانيا تقدمه مدعوما للبيوت فيها.

الثورة كانت في الحقيقة نصف ديمقراطية غير منظمة، ونصف يمينية نيوليبرالية منظمة في مجموعات ممولة بشكل معلن من السفارات الغربية. مساعدة وزير الخارجية الأمريكي، فيكتوريا نولاند، قالت السفير الأمريكي في كييف في مكالمة تليفونية تم تسريبها: “Fuck the European Union، المهم إن ياتسنياك عنده الخبرة الاقتصادية المطلوبة”، بمعنى ليس مهم إطلاقا أوكرانيا ستوقع الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي ولا لأ (الذي هو السبب في أن المجتمع المدني الأوكراني دعا للثورة بسببه) المهم أن ياتسنياك زعيم المعارضة سينفذ السياسات الاقتصادية المطلوبة أمريكيا، وفعلا ياتسنياك أصبح رئيس الوزراء الأوكراني بعد الثورة.

أزمة بناء الأمة الأوكرانية هي نموذج لأزمة بناء الأمة في أغلب بلدان العالم الثالث والسياسات الدولية تجاهها المنقسمة بين سلطوية صريحة وبين ديمقراطية غير كفأة بسياسات اقتصادية مدمرة اجتماعيا.